في الخليج نقبل أن ترفع معنا الأزمات الكلفة، فتربت على كتفنا لقبول حل لأمن الخليج بإقامة قاعدة عسكرية أجنبية مرة وبأساطيل مرة وبمد مظلة النفوذ في أغلب الأحيان، أما الجديد فهو المبادرات والوساطات كالمبادرة الأوروبية والمبادرة الأمريكية، وآخرها مبادرة موسكو، ففي 27 سبتمبر2019 عاد سيرغي لافروف وزير الشؤون الخارجية الروسية ليسوق للمبادرة الروسية من منبر الأمم المتحدة حيث دعا الأطراف المعنية في منطقة الخليج إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات بدون اتهامات تفتقد إلى أدلة ثبوتية، وأضاف خلال مؤتمر صحفي: نفترض أنه إلى جانب دول منطقة الخليج نفسها، يجب أن يشارك غيرهم في الحوار، فالمبادئ التي اقترحتها روسيا يمكن أن تمتد إلى دول أخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتلك فلسفة المبادرة، فما هي وما تحفظاتنا عليها؟!

1- شجع روسيا على هذه المبادرة أنه سبق أن طرحت بنهاية التسعينات، فلم يهتم بها أحد، فعدلتها وأعادت عرضها. فالظروف الراهنة مواتية، فروسيا ستكون لها رئاسة مجلس الأمن هذا الشهر وحيز المناورة أكبر حيث تسعى لإنضاجها وتقديمها للمجلس متكاملة.

2- يشجعنا على التحفظ على المبادرة عدم فهم الروس لجوانب نظرية أمن الخليج بالأساس، يدفعهم في ذلك عقيدة استراتيجية رومانسية قديمة محاورها التقرب من المياه الدافئة بأية ذريعة كما لو كان مشابهاً لوصول الحجاج الروس عبر تركيا ووصول تجار الجلود الروس قادمين عبر إيران، كما قلل فهمهم لنا أنهم كانوا في المعسكر الآخر في الحرب الباردة. وأبعدهم اليوم شجبنا للدمار الذي أحدثه تجريب الأسلحة الروسية الجديدة في سوريا.

3- كما أن تمحيص المبادرة الروسية يظهر أنها عدلت لتتماهى مع اقتراح محمد جواد ظريف بشأن منتدى الحوار الإقليمي الخليجي الذي جاء في مقاله 12 يناير 2018 تحت عنوان إيران والترتيبات الأمنية للخليج بعد «داعش»

Iran can set a post-Isis security policy for the region

في صحيفة Financial Times البريطانية على الرابط:

https://www.ft.com/content/c0b6bc36-fead-1

بل إن المبادرة الروسية تبنت مفردات ظريف ليس بتسمية الخليج بالفارسي بل في الكثير من محتواها كتقليص الوجود العسكري الأجنبي، كما وردت على موقع وزارة الخارجية الروسية.http://ar.mid.ru/1764.

4- مفهوم روسيا لأمن الخليج خلطة دولية، وواسعة، وطويلة الأمد، وتخلو من الحنكة السياسية. فآليتها نسخة من آلية منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، ولم ينقص في عملية تدويل الخليج الساذجة إلا انضمام بوركينا فاسو وجمهورية فولتا العليا لمنظمة الأمن الجماعي الخليجي التي حشر المقترح الروسي فيها الخليجيين وإيران وروسيا وأمريكا والصين والاتحاد الأوروبي والهند بالإضافة إلى دول أخرى بصفة مراقب بحجة الشمولية. بل إنها خطة واسعة تشمل مكافحة الإرهاب والاتجار بالأسلحة والهجرة غير الشرعية والاتجار بالمخدرات والجريمة المنظمة وحل النزاعات في اليمن وسوريا، وإقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل بل والتعايش بين الأديان. كما أنها طويلة الأمد بشكل يكشف نوايا موسكو للتغلغل وليس طرح حل عاجل ناجز، حيث تتسم بالتدرج فتبدأ بمشاورات ثنائية طويلة ومملة ومتعددة الأطراف بين أصحاب المصلحة. أما أسوأ تفاصيلها فخلوها من حل عبقري أو فكرة جديدة بل قامت على مبادئ عامة ساذجة في مثاليتها كالالتزام بالقانون الدولي واحترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وتحريم استخدام القوة واللجوء للحل السلمي.

* بالعجمي الفصيح:

أكتب في قضايا «أمن الخليج» منذ عقدين، ولم أخرج عنه إلا لماماً. وفيه أحمل الدكتوراه، وعنه حضرت أكثر من مائة تجمع بين مؤتمر وندوة وحلقة نقاش، وأدير مجموعة مراقبة الخليج من 36 مشاركاً من النخب الفكرية الخليجية، وكانت حصيلة ذلك وصولي لقناعة أن أمن الخليج بضاعة من لا بضاعة لدية، وفي الجزء 2 سنكمل كيف صارت بضاعة روسية.

وللحديث بقية.

* كاتب وأكاديمي كويتي