بمناسبة احتفال مملكة البحرين بأعيادها الوطنية يومي الـ16 والـ17 من ديسمبر إحياء لذكرى قيام الدولة البحرينية الحديثة في عهد المؤسس أحمد الفاتح ككيان عربي إسلامي عام 1783 ميلادية، والذكرى الـ43 لانضمامها للأمم المتحدة كدولة كاملة العضوية، والذكرى الـ15 لتسلم حضرة صاحب الجلالة الملك المفدى حفظه الله ورعاه لمقاليد الحكم.
بهذه المناسبة، يجيء الاحتفال بالأعياد الوطنية هذا العام في أجواء تختلف عن سابقاتها، حيث اجتاز الشعب البحريني قبل أيام قليلة مرحلة جديدة من مراحل تطوره السياسي والديمقراطي، وحقق قفزة هائلة في مشوار نهضته ورقيه بعد أن نجح في تنظيم وإخراج رابع انتخابات نيابية وبلدية تجري في المملكة منذ انطلاق المشروع الإصلاحي للعاهل المفدى قبل أكثر من 12 عاما في دلالة واضحة على أن الديمقراطية البحرينية، القصيرة بعمر الزمن، باتت تؤتي ثمارها المرجوة.

وإذا كانت البحرين تحتفي سنويا بكثير من الإجلال والتقدير لكل من ساهم بدور في مراكمة النجاحات وفي تحقيق إنجازات بعينها في القطاعات التنموية والبشرية المختلفة، وتسطر في كتاب نهضتها حجم الجهد الذي يبذل هنا وهناك من جانب كل فئات المجتمع وشرائحه في كل مواقع المسؤولية والقرار لتلبية طموحات المواطنين والوفاء بتطلعاتهم، فإنها اليوم تسجل ملحمة جديدة في تاريخها الخالد والباعث على الفخر بمناسبة النتائج الباهرة التي أسفرت عنها الانتخابات الأخيرة، خاصة مع الدلالات التي صاحبتها، والمنتظر أن تترتب عليها خلال الفترة المقبلة من عمر الوطن ومسيرته نحو التقدم.

مسيرة الالتزام والوعي والمسؤولية
وتذخر مسيرة المملكة في الحقيقة، سيما في هذا العام، بصفحات طوال سُطرت بحروف من ذهب، عكست مدى التزام ومسؤولية مواطنيها، ومستوى وعيهم الكبير الذي يتحلون به، وقدرتهم الفائقة على التمييز بين الغث والسمين، فضلا عن نزاهة ومؤسسية دولاب العمل العام بها، الحكومي والأهلي، وشفافيته التي شهد ويشهد لها الجميع، والحس الوطني العالي للقائمين عليه، والذي يحثهم دوما على ضرورة أداء المهام الوطنية الجسام المكلفين بها، وعلى أكمل وجه وسط أعتى الظروف.

كذلك، وبالرغم مما تعرضت له المملكة ومواطنيها من تحديات وتهديدات تحت دعاوى خبيثة للنيل من مسار تطورها وسجل نهضتها، والتي سعت تحت شعارات زائفة لعرقلة خطواتها الجبارة إلى آفاق أرحب من التطور والرخاء، لكنها وبتوجيهات سديدة من قيادتها الرشيدة، وبفضل رعايتها الكريمة لكل خطوة تسهم في رفعتها، وبمشاركة شعبية أصيلة وواسعة تعبر عن عظم الولاء والانتماء لأرض هذا الوطن الكريم..

بالرغم من كل هذه التحديات التي تعرضت لها خلال الفترة الأخيرة، فإن البحرين لم تألوا جهدا في توفير كل الإمكانات والمقومات اللازمة لإنجاح النهج الديمقراطي الذي اختطته لنفسها كمشروع وطني ينهض بشعبها وتباهي به الأمم، وعملت بكل ما أوتيت من قوة لإبراز صورتها الحضارية المشرقة والمزدهرة أمام العالم أجمع، وكشفت بحضور كوكبة من الصحفيين ومراسلي وسائل الإعلام بالداخل والخارج عن حقيقة الادعاءات التي ما فتئت تزعم سيطرتها على الشارع، وحاولت النيل من وحدتها وأمنها واستقرارها.

ولعل ما أفرزته أبرز تطورات هذا العام، التي يأتي في مقدمتها الانتخابات النيابية والبلدية الأخيرة بجولتيها الأولى والثانية، ومن ثم تشكيل الحكومة الجديدة التي تحمل معها البشرى للوطن والناس، وغير ذلك الكثير مما اختبرته البلاد طوال الأشهر القليلة الماضية، والتي تكشف جميعها عن حجم التحول الذي تشهده الساحة البحرينية، والذي سينسحب بكل مفرداته على مجمل المشهد الوطني في الفترة المقبلة على كل المستويات والقطاعات.

ويبشر كل ذلك في الواقع بمستقبل واعد يأمله الجميع ويعمل من أجله الكافة، ومن بين أبرز دلالات هذا المستقبل صعود مؤشرات النمو الاقتصادي في الربع الثالث من هذا العام مقارنة مع الفترة ذاتها عام 2013، وذلك بنحو 5.1% بالأسعار الثابتة و4.7% بالأسعار الجارية، وشمل مختلف القطاعات الاقتصادية النفطية وغير النفطية.

ناهيك بالطبع عن مواصلة خطواتها الثابتة نحو النهوض، بالإشارة إلى أن البحرين ما زالت ضمن الدول الأولى عربيًا في مؤشرات التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة، ولديها الاقتصاد الأكثر حرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفقًا لمؤسسات دولية عريقة كمعهد فريزر ومؤسسة هريتدج فاونديشن، واحتلت المركز 13 عالميا 2014، وتعد المركز المالي الأسرع نموا في العالم، وتصنف من قبل البنك الدولي كاقتصاد مرتفع الدخل بمتوسط فردي يتجاوز 28 ألف دولار.

مسارات الإصلاح والتقدم لن تتوقف

تبدو هذه الحقيقة واقعة مجسدة على الأرض بالنظر إلى أكثر من شاهد اختبرته المملكة طوال العام المنصرم، لعل أهمها، أن دعوات التشكيك، ومحاولات تغليب الرأي الواحد التي مرت بالبلاد، فضلا عن الرغبة في إعادة زمن فرض الإرادات على الشارع، التي ولت دون رجعة، وتوجيهه قسرا ورغما عنه إلى اتجاهات أخرى غير وطنية، فضلا عن المساعي الحثيثة لجر البلاد إلى ما لا يحمد عقباه، والإصرار على جلب التدخلات الخارجية في الشأن المحلي، واستدعاء تجارب ثبت خطرها في المحيط المقارب، كل ذلك لم يجد له أذن صاغية لدى مواطني المملكة، ووقفت البلاد في وجهه وقفة رجل واحد، قيادة وحكومة وشعبا، بثبات وعزم لا يلين ولم يتزعزع.

بل ولم يجد الداعون لتقسيم الشارع، المهددون لوحدته وتماسكه، والمحرضون على تفتيته، وإشاعة الفوضى بين صفوفه، أي صدى في أوساط المواطنين البحرينيين، حيث استقر في قلوبهم وأفئدتهم أن بهذه البلاد رجال يسعون من أجل خيرها واستمرار تقدمها، وقد تأكد ذلك في مؤشرات المشاركة والإقبال المنقطع النظير على الانتخابات، ترشحا وتصويتا.

والمعروف أن أكثر من 400 مترشح تنافسوا في الجولة الأولى من الانتخابات، وبمشاركة شعبية بلغت نسبتها 52.6 بالمئة للانتخابات النيابية و59.1 بالمئة للانتخابات البلدية، أو ما يقدر بنحو 153 ألف ناخب من مجموع الكتلة الانتخابية المؤهلة للتصويت البالغة نحو 349 ألف ناخب من مجموع السكان، وهو ما تجدد في الجولة الثانية التي شهدت زخما في المشاركة وإقبالا على التصويت، وذلك بعد أن تنافس أكثر من 100 مترشح حازوا أكبر عدد من الأصوات على 34 مقعدا نيابيا و21 بلديا في تجسيد واضح على احتدام المنافسة في غالبية الدوائر تقريبا ونزاهة العملية الانتخابية، حيث لم تعرف النتائج إلا بعد جولتين انتخابيتين.

يضاف ذلك بالتأكيد إلى أن فوز المترشحين بثقة الشارع تعكس دلالة أهم مع الاحتفال بالأعياد الوطنية، وهي أن جموع المواطنين، كلا في موقعه، ومع دخولهم مرحلة جديدة من العمل العام، لم يتوانوا عن القيام بمسؤولياتهم الوطنية ناحية بلادهم ومجتمعهم بغرض إيصال النائب الكفء للمقعد التمثيلي، وهو تعبير يؤكد أنهم على الدرب سائرون، راضون مطمئنون، وواثقون من الخطوات المتبعة ونهج القيادة الرشيدة في إدارتها لملفات البلاد المختلفة.
ولعل من المهم هنا إبراز حقيقة أخرى، وهي اقتحام الشباب البحريني عماد نهضة الأمة ومستقبلها والمقوم الأكبر من مجموع سكانها مجال العمل السياسي، وهو ما يعكس ليس فقط اهتمام وقناعة الأجيال الجديدة بالنهج الثابت والرصين في قيادة المملكة، ومسعاهم للمشاركة بأي جهد في النهوض به، وإنما رغبة وإرادة جيل جديد من المواطنين على المشاركة في رسم وتحديد مستقبل بلادهم في الفترة القادمة، حيث بلغ عدد الناخبين من هذه الفئة الواعدة الذين شاركوا في العملية الانتخابية إثر بلوغهم السن القانونية، أي 20 سنة، وباشروا لأول مرة حقوقهم السياسية، ما قدره 49.553 ألف بنسبة 48.02 بالمئة.

أداء وفاعلية بشهادة الجميع

يكشف أداء وفاعلية الأجهزة المختلفة في العام المنصرم، وبخاصة خلال الفترة السابقة على إجراء جولتي الانتخابات وأثنائها وحتى بعد إعلان تشكيل الحكومة وبدء قيامها بمهامها المحددة في خطاب التشكيل، عن مستوى عال من الدقة والمهارة والتنظيم يتسم به كل العاملين في أجهزة الدولة المختلفة.
ولا شك أن هذا المستوى الفائق من الجاهزية والرقي في الأداء والفاعلية في الإنجاز، ليس وليد الانتخابات وما تلاها، وإنما هو سمة عامة تميز الجهاز الإداري للدولة ورجالاته في كل القطاعات وعلى المستويات كافة، وهو ما يمكن قياسه بالنظر إلى تقارير وزارة الدولة لشؤون المتابعة، التي أكدت تنفيذ الحكومة الموقرة برنامج عملها للسنوات 2011 – 2014 بنسبة 81% على الصعد السياسية والاقتصادية والمالية والخدمات والتنمية البشرية والاجتماعية والبنية التحتية، وبنسبة 75% على صعد البرامج والمشاريع الإدارية التي تنفذ على مستوى الوزارات وتطوير عملها، وهو ما كان له عظيم الأثر في تنظيم العملية الانتخابية الأخيرة بكل مراحلها.

وانعكس هذا الأداء الفاعل في تحسن الأوضاع وزيادة معدلات رضاء المواطنين، الأمر الذي شهدت به التقارير والمنظمات ومراكز البحوث الإقليمية والدولية، وذلك مثلما أشير سلفا. وتأكدت هذه الشهادات التاريخية أيضا خلال الانتخابات الأخيرة التي تمت تحت إشراف ما لا يقل عن 56 قاض، ومتابعة 300 مراقب ينتمون لثماني جمعيات من مؤسسات المجتمع المدني البحرينية، فضلا عن ترحيب العديد من الأوساط في الخارج بها، معربين عن أملهم بأن تحقق النتائج التي يصبو إليها شعب البحرين، وذلك للنهوض بالإصلاحات الضرورية في البلاد، وتعزيز مؤسساته التمثيلية.
وقد أكد هذا المعنى جلالة العاهل المفدى عندما وجه الشكر والتقدير في خطابه السامي في افتتاح دور الانعقاد الأول من الفصل التشريعي الرابع يوم الـ14 من ديسمبر الجاري لكل صاحب جهد، وعلى رأسهم "صاحب السمو الملكي، الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر، وولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد الأمين، ولمنتسبي ورجال قوة دفاع البحرين، والأمن العام والحرس الوطني، ولكافة الجهات التي قامت على تنظيم الانتخابات النيابية والبلدية والإشراف عليها بكل اقتدار، وبخاصـة السادة أعضاء السلطة القضائية المحترمين"، كما عبر عن تقديره العميق "لكل من مارس حقه في الترشيح والتصويت بروح وطنية".

وهي الرسالة التي تعكس تقدير القيادة الرشيدة العالي لكل الجهود الدائمة والمستمرة ليس فقط لمتابعة وتطوير عمل الحكومة، والتواصل مع كافة فئات المجتمع والتعرف على آراء المواطنين الكرام، وإنما أيضا للزود عن حياض الوطن والحفاظ على مكتسباته التنموية والحضارية.