في بيتنا القديم في مدينة المحرق، وسط الأزقة الضيقة، كنت أشاهد نفراً من الناس يحضرون إلى بيتنا، لزيارة والدي رحمه الله، كان مكان انتظارهم في «الليوان» الغربي، الذي كان يحتوي على عدد من المراوح ليلطف حرارة الجو.

لم أكن أعرف كل هؤلاء الأشخاص، فبعضهم حضر من مكان بعيد لمقابلة والدي رحمه الله. كانوا يجلسون على الجلسة الأرضية «الدواشق» ينتظرون دورهم كما لو كان الأمر أشبه بانتظار مواعيد المستشفى.

سألت والدي رحمه الله عن سبب تواجد بعض الأشخاص بين الفترة والأخرى عندنا، فأخبرني بأنه يكتب لهم رسائل لطلب مساعدة من الديوان الأميري أو تحديداً كما قالها من «الشيخ عيسى».

امتاز والدي رحمه الله بخطه الجميل، والذي اهتم بتنميته بأخذ دروس مكثفة في أنواع الخطوط، حتى باتت الوسائل التوضيحية التي أقوم بها للمدرسة «ملفتة للنظر»، وانتشر في المنطقة بأن «والدي» خطاط وفنان، لإجادته الرسم أيضاً.

كنت في هذا الوقت أصغرمن أن أستوعب ما ذكره لي والدي، فأنا لا أعي معنى الديوان الأميري، وأجهل معنى كتابة رسالة لطلب مساعدة.

كنت أرى الأشخاص الذين يأتون لطلب كتابة الرسالة، يزوروننا بعد مدة والفرح والسرور يكسيهم، ومازلت أذكر «شوكلت»، «ماكنتوش»، الذي يجلبه بعضهم لوالدي، وبعض أنواع الحلويات التقليدية الأخرى كالحلوى البحرينية والزلابية، أو الفواكه أو حتى مجموعة من العصائر، ولكن ما كان يميز هذه الذكرى تحديداً هي علبة «ماكنتوش» التي كنت أنتظرها بشغف لأجمع منها الحلوى الصفراء، قبل أن يهجم أخوتي عليها ولا يتبقى لي منها شيئاً.

كنت أعلم أن ثمة شيئاً إيجابياً حصل كان هو الدافع وراء حضور هؤلاء مجدداً محملين ببعض الهدايا، ولكني كنت أصغر من أن أفهم القصة كلها وأجمع أطرافها كاملة.

كان يقول والدي رحمه الله: «الشيخ عيسى ما يرد أحد، وباب ديوانه مفتوح للجميع، ويده ممدودة لجميع أبناء شعبه ومن على هذه الأرض الطيبة».

كنت في عمر لا يفقه التشبيه البلاغي، فسألته بعفوية، أبي هل تعمل لدى الشيخ عيسى؟؟ فضحك وقال «كلنا نعمل لدى الشيخ عيسى، فمن أي مكان نحن نساهم في بناء الوطن»، وتمتم، «ياليت كنت أشتغل مع الشيخ عيسى»، فقاطعته «أبي، هل الشيخ عيسى هو من يرسل «الماكنتوش» فضحك بشدة، وقال لا بالطبع.. فتتابعت أسألتي إذاً لماذا يحضر هؤلاء لأخذ الرسائل ويرجعون محملين بالحلوى والمكسرات!!

فقال لي: هم يأتون من أجل أن أكتب لهم رسالة يحملونها للشيخ عيسى ليطلبوا من سموه أي شيء يتمنونه، ولأن الشيخ عيسى أمير كريم ومعطاء ويحب مساعدة الجميع سواء أكان بحرينياً أم لا، فهو يحقق لهم أمنياتهم وتطلعاتهم. سألته و«الماكنتوش» هم من يحضرونه؟؟ لماذا؟؟ فضحك وقال «نعم هم يحضرون الحلوى من باب الشكر والامتنان لي لأنني ساعدتهم في كتابة الرسالة ليس إلا».

وكبرت وزاد إدراكي ووعي، وأصبحت أرى كل من حولي يتحدث عن سخاء وكرم الراحل والمغفور له بإذن الله تعالى الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، وحبه لعمل الخير في داخل البحرين وخارجها، ولو كان هناك متسع من الوقت والمساحة لكتبت كل ما سمعته من قصص في سخاء وكرم الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان، طيب الله ثراه.

رحل هذا القائد العظيم مخلفاً وراءه ملك القلوب، الذي استكمل مسيرة المجد التي بدأها والده الأمير الراحل، والذي واصل على نهج العطاء والتواصل مع مختلف أطياف الشعب، ليس هذا وحسب بل أن قائدنا حمد هو ابن بار، ابن نفذ وصية الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيها: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».

فها هو حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، عاهل البلاد المفدى، يوقف الصروح العلمية باسم والده الأمير الراحل وما وقف عيسى بن سلمان إلا أحد الشواهد على هذا الشيء، وها هو حمد بن عيسى يدعو لوالده ويخلد ذكراه من خلال جائزة إنسانية عالمية تحمل اسم والده الأمير الراحل.

وكما نقول في أمثالنا العربية التي تشكل جزءاً هاماً من هويتنا «من خلف ما مات»، «فمن خلف ملكاً كملكنا حمد أطال الله في عمره، فتظل ذكراه عطرة».

* رأيي المتواضع:

في خطاب سيدي جلالة الملك المفدى الأول الذي ألقاه جلالته بعد رحيل والده الأمير الراحل المغفور له بإذن الله تعالى، هذا الخطاب الذي امتزج فيه حزن الابن على فقد والده بالمسؤوليات الجسام. قال سيدي جلالة الملك «إنني كابنٍ لعيسى، وحافظٍ لعهده، سوف أحمل لواء نهجه الذي لا يميّز بين أبناء الوطن الواحد في اختلاف الأصول والمذاهب، ولا ينظر إلا لصدق الانتماء الوطني، وروح المواطنة الحقة التي تريد الخير للبحرين وأهلها كافة».

نم قرير العين يا صاحب العظمة، فابنك جلالة الملك حمد، ينتهج خطواتكم الجليلة، ويواصل ما بدأتموه من نماء وعطاء، فهو خير خلف لخير سلف.