انتشرت في الفترة الأخيرة في وسائل التواصل الاجتماعي رسائل تسترجع ذكريات الأيام القديمة مثل: الأزياء، الملابس المدرسية، الأدوات، والأواني، الألعاب القديمة، وكذلك مقاطع المسلسلات والأفلام والأغاني والرقصات والبرامج التلفزيونية القديمة، ولم يقتصر الأمر على وسائل التواصل الاجتماعي بل تعداه إلى قنوات التلفاز حيث ظهرت قنوات تلفزيونية متخصصة لعرض المسلسلات والبرامج التلفزيونية القديمة، وتقبل الناس هذه القنوات وهذه الرسائل المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي، وأقبلوا عليها، وتجد الناس يستقبلون هذه الرسائل بشوق وحنين، ويشعرون براحة نفسية عند مشاهدتها، فيُجمعون أن الماضي كان أجمل من الحاضر ولن يكون المستقبل أفضل من الماضي، فيطلبون المزيد من نشر هذه الرسائل، بل إنهم أطلقوا مسميات على الزمن القديم مثل: «زمن الطيبين»، واعتبروا الجيل الذي عاش هذه المرحلة جيلاً محظوظاً متميزاً، فينتاب الناس شعور بالأسى على الأيام الماضية، فينعونها لأنهم آمنوا أن الأيام السعيدة لن تعود. وإني لأعتبر هذا السلوك ظاهرة اجتماعية جديدة في مجتمعنا لم تكن شائعة من قبل. وفي تقديري أن هذه الظاهرة جديرة بالتوقف عندها وتحليلها وتعليلها. فالشعور بالأسى على الماضي واليقين أن الماضي أفضل من الحاضر والمستقبل، يدل على ميل الناس إلى التشاؤم وتراجع روح التفاؤل لديهم.

ولا أدري هل الحنين للماضي وفاءً أم هروباً من الواقع الحالي؟ أم هو متنفس لعلاج الضغوط النفسية؟ فالإنسان يتذكر اللحظات الجميلة من الماضي في مقابل اللحظات الصعبة التي يعيشها من الحاضر، فعندما تواجهنا خلال حياتنا الكثير من العقبات والمخاطر نحن إلى ماضينا البسيط وطفولتنا الجميلة المليئة بالأمان الخالية من المسؤولية، وعندما تواجهنا قسوة بعض الأشخاص بالمجتمع نتذكر طيبة أهل زمان، فجميعنا يشتاق للبيت «العود» والجد والجدة ودفء العائلة ونحن لشوارعنا التي كانت تعج بضحكات الأطفال والتواصل بين الأهل والجيران، فنحن نسترجع الذكريات القديمة بحنين للماضي عندما نتعرض لعراقيل وصعوبات في حياتنا الحالية تجعلنا نقارن بين الماضي والحاضر ونتمنى عودته، بل نجد أن مشاعر الفرح والحزن كانت أكثر صدقاً في الزمن الماضي رغم بساطة الحياة إلا أن الحب والدفء كان دائماً يحيط بالإنسان، فتلك مشاعر قد افتقدناها.

لقد فسر علماء النفس هذه الحالة تحت مسمى «النوستالجيا» كمفهوم «الحنين إلى ماض مثالي»، ووصفوها بأنها حالة عاطفية نصنعها نحن يتم فيها استرجاع مشاعر عابرة ولحظات سعيدة من الذاكرة، وهي آلية دفاع يستخدمها العقل الباطن لتحسين المزاج والحالة النفسية، لذا فإنها تزيد عند الشعور بالملل أو الإحساس بالوحدة أي عندما يحس الإنسان بأن حياته فقدت قيمتها وأصبحت تتغير للأسوأ، فيقوم العقل باستدعاء ذكريات الماضي الطيبة بدفئها وعواطفها، فتعطيه تلك الذكريات الدفعة التي يحتاجها للتعامل مع التحديات الحالية. ويشعر بالسعادة والراحة، وتحسن من حالتنا النفسية وتزيد رغبتنا في التواصل الاجتماعي خصوصاً مع الأشخاص الذين يرتبط الماضي بهم كالأهل وأصدقاء الطفولة، فالحنين يجعلنا أكثر أمناً وأكثر دفئاً، فيعتبرها العديد من الخبراء حالة نافعة وليست سيئة.

وأرى أن سبب المبالغة في تذكر الماضي هو التغيرات في طبيعة العلاقات الاجتماعية التي طرأت على مجتمعنا فقد افتقدنا العلاقات الاجتماعية والإنسانية الحمية التي تحقق للإنسان التوازن النفسي والاطمئنان والاستقرار العاطفي، وتشبع الاحتياجات النفسية لدينا. افتقدنا العلاقة الحمية بين الجيران وتواصلهم الجميل فبين تجمع النساء ضحىً لتناول الشاي وتجاذب أطراف الحديث، وبين تجمع الأطفال للعب في شوارع الحي وبراحاته، افتقدنا التجمع الأسري اليومي حيث كان أفراد الأسرة يجتمعون يومياً ثلاث مرات على طاولة الطعام، ويلتقون عصراً لشرب الشاي، يتحاورون ويحصلون على مساحات واسعة للفضفضة فيحتسون جرعات كافية من الاطمئنان والسعادة والراحة النفسية. وغيرها من العلاقات الاجتماعية. إن افتقادنا للتواصل الاجتماعي مع الآخرين، أثار لدينا احتياجاً نفسياً للعودة للماضي، وجعلنا نشعر بأننا خسرنا أياماً جميلة سعيدة لن تعود، وتعزز لدينا الشعور أن الأيام السابقة أجمل من الأيام التي نعيشها، والتي سنعيشها وكأننا ننعى السعادة ونودعها.

وهنا أقول، كفانا استرجاعاً للماضي، فما هو إلا جرعة مهدئة وليس علاجاً، دعونا نبتكر طرقاً لتعزيز التفاعل الاجتماعي بين أفراد الحي، وبين أفراد الأسرة، وبين أفراد العائلة، كإقامة الأنشطة والفعاليات التي تجمع أفراد الحي، دعونا نتمسك بالتجمعات العائلية، ولنصنع بأيدينا حاضراً سعيداً، ولنوقن بأن أجمل الأيام يوم لم نعشه بعد.. ودمتم أبناء قومي سالمين.