"الأنصاري" تلك القامة الفكرية، ذلك المخزون الثقافي الثري، ذلك الإنسان الحنون أباً وجداً وزوجاً ومعلماً، من حقه علينا كبحرينيين أن نعرفه أكثر لما تركه بيننا من أثر سيبقى خالداً لتحمله الأجيال جيلاً تلو الآخر.

د محمد جابر الأنصاري مستشار لجلالة الملك منذ كان جلالته ولياً للعهد والذي عايش ولادة اللبنات الأولى للمشروع الإصلاحي مع جلالته والشاهد على هذا العصر الذي رافقه حين وضعت له أسس الميثاق الأولى وتحولاته السياسية التي ترتب عليها إعادة الحياة البرلمانية وتعديلاته الدستورية التي شكلت منعطفاً في تاريخ البحرين السياسي.

أكثر من ثمانين عاماً (أطال الله في عمره) قضاها هذا الرجل في خدمة وطنه ومليكه وحين بدأت ذاكرة الأنصاري تضعف وتخونه زاره جلالة الملك في بيته ليس مجسداً أجمل صور الوفاء والعرفان فحسب بل حين همس له "قد لا تعرفني الآن ولكنني أعرفك جيداً" هل هناك إقرار أكثر من هذا بفضل هذا الرجل ومكانته لدى جلالته؟

رجل نحن كبحرينيين وكعرب بحاجة لأن نعرفه أكثر ونقترب منه أكثر فمثله من يستحق أن نتعلم منه وننهل من بحره نعوض به ذلك التعطش للعلم والمعرفة.

أثرى المكتبة العربية بنتاج فكري تفاخرنا به كمواطنين بحرينيين مثلنا الأنصاري خير تمثيل لعمق وغزارة ذلك النتاج واتساع نطاقه ودرجة تأثيره على مسار الفكر العربي، نتاج جاب الآفاق جنباً إلى جنب مع اسم البحرين فأعلاه ورفعه وميزه.

لم يتخلَ عن عروبته ولا جذوره الإسلامية دافع عن البحرين من منطلق دفاعه عن الدولة القومية لم ينسلخ من هويته رسم الخط الفاصل وبوضوح بين المتغيرات السياسية وثوابتها لم يتنازل عن معتقداتها وما يؤمن به لم يخشَ من شراسة الخصوم بل نازلهم في ميادينهم ولطالما حفر في العمق حيثما تراجع الآخرون.

المثقف الذي لم يكتفِ بمخاطبة النخب بل اخترق كل الحواجز وهجر كل الأبراج العاجية وخاطبنا كجمهور بلا تحفظ، فإلى جانب كتبه كانت مقالاته في الصحف تخاطب الناس بلغتهم المعاصرة دون ترفع ودون سفسطة، لم يكن بحاجة لإثبات قدراته فقد سبقته في الإعلان عن نفسها، فهو الأستاذ في دراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر، وعميد كلية الدراسات العليا في جامعة الخليج في البحرين وعضو المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون في البحرين نال البكالوريس في الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1963م ماجستير في الأدب الأندلسي عام 1966م الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية الحديثة والمعاصرة عام 1979م بالإضافة لذلك تابع تعليمه وحضوره للدورات الدراسية في عدد من الجامعات المرموقة في العالم كجامعة كامبردج. في عام 1982 توجه إلى فرنسا لدراسة الثقافة الفرنسية في جامعة السربون بباريس، فلم يكن بحاجة لإثبات ما هو ثابت أو لتعريف ما هو معرف.

أغراه الصعب وتجرأ على كل الجبال المعيقة لسير الرياح تسلقها دون تردد ونظر لقاعها وسبر أغوارها

دافع عن التضاد وقارب بين الأفكار والمعتقدات آمن بالوسطية واقعي جداً نصير الممكن بلا مثاليات وفرضيات سفسطائية والأهم أنه آمن أن كثيراً من العلم أمانة ومن الظلم أن يبقى حبيس النفوس أو تتداوله النخب في غرفها المغلقة، فهو من لام المثقفين على انعزالهم، لذلك كان الأنصاري قريباً منا حاضراً في يومنا مستشرفاً مستقبلنا.

مثله يستحق أن يبقى حياً في ذاكرة الأجيال ينهلون من بحره على مر العصور وتلك أمانة في عنقنا جميعاً.