تمكنت إيران خلال العقود الأربعة الماضية من تصوير نفسها «ولو من الخارج» على أنها «قوة مقاومة» و»قوة عسكرية ضاربة». ودعمت هذه الصورة بتمددها على حساب عدد من البلدان العربية الممزقة. ولكن -ورغم هذه الهالة الدعائية- بينت الأحداث الأخيرة أن وراء تلك العواصف مؤشرات ضعف وهشاشة كبيرين، تهددان النظام من الداخل، كما أن استمرار مراهنته على تصدير أزماته إلى الإقليم لن ينفعه كثيراً على المدى القريب في مواجهة الوقائع الجديدة على الأرض، سواء في الإقليم أو في العالم.

ولعل مأساة إسقاط الطائرة الأوكرانية المنكوبة من قبل «الحرس الثوري» مثال إضافي من أمثلة عديدة أخرى، على تلك الهشاشة، وذلك الارتباك الذي أصيب به النظام في إيران، كنتيجة للضغط المستمر عليه من الداخل والخارج. حيث بينت تلك الحادثة الانكشاف أمام الحقائق على الأرض، وخاصة فيما يتعلق ببدائية ما يمتلكه من قوة عسكرية عتيقة، تعيش خارج العصر. إلا أن هذه البدائية نفسها وهذا الارتباك وازدواجية القرار العسكري والسياسي، هي نفسها ما بات يقلق العالم، إذ أصبح ذلك مصدر الخطورة، خصوصاً في ظل سعي النظام إلى امتلاك قوة نووية في المستقبل القريب على الأرجح.

ولكن -ومع ذلك- فإنه من الواضح، أن إيران لاتزال عالقة في القرن العشرين في أحسن الأحوال، من خلال استمرارها في دائرة تصدير الثورة، وفي سبيل ذلك، تعلن الحروب وتعمل على التمدد وتجند الميليشيات. وتتصرف وفقاً لآليات عمل الحرب الباردة التي انتهت عملياً، وكأنما العالم لم يتغير من حولها، مما يدفع عدداً من النخب الإيرانية في الداخل والخارج إلى التساؤل في مرارة: هل أصيبت إيران بالبلادة؟ وهل أصيب النظام السياسي الإيراني بالعقم الفكري والسياسي اللذين يحولان دون فهم متطلبات الاندراج ضمن المنظومة الدولية؟

وحتى ما يتعلق بشعارات امتلاك «القوة الضاربة والمدمرة» بات لا يستقيم مع الواقع، حيث فشلت إيران في أول مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي بينت كم هي هشة وغير فعالة بنيتها السياسية والعسكرية وقدرتها على الردع!! كما بينت حادثة إسقاط الطائرة الأوكرانية كم هي بدائية الآلة الحربية الإيرانية حتى إنها لا تستطيع التفريق بين طائرة مدنية وأخرى عسكرية. وهذا ما جعل النظام يلوك في مرارة، لا تخلو من الادعاء، انهيار صورته العسكرية وتأثيرها الدعائي، بسبب فقر في الفكر الاستراتيجي، وعدم امتلاك رؤية أبعد من مغريات الدعاية الاستعراضية.

لقد بينت التحولات الأخيرة في الإقليم عدداً من التغيرات المهمة، منها:

* أن التمدد الإيراني في المنطقة لم يعد مصدر قوة -كما تصور الزعماء الإيرانيون- بل هو اليوم مصدر إرهاق للاقتصاد الإيراني ولمستوى معيشة الإيرانيين، نتيجة كلفته العالية على كافة الأصعدة.

* بدء تراجع التأثير الإيراني «خاصة في كل من العراق ولبنان»، وازدياد حجم الكراهية والعداء للتدخل الإيراني المستفز في الشأن الداخلي للدولتين، كما بينته المظاهرات الشعبية والشعارات المرفوعة من المتظاهرين في البلدين.

* فشل منطق التهديد بالقوة لجر المنطقة والعالم إلى منازعات ساخنة لإخفاء المشكلات الحقيقية التي يعاني منها النظام السياسي والمنظومة العسكرية في إيران والذي فشل في تحقيق «عملقة إيران المزعومة». وبدا واضحاً أن العالم مستعد لمواجهة هذا النظام، بلا هوادة وبكل الطرق، إذا ما استمر في نهجه الحالي.

* بدا واضحاً أن العالم «جله تقريباً»، يقف وفي وادٍ، وإيران في وادٍ آخر، لتتحول إيران تدريجياً إلى دولة شبه معزولة، خاصة إذا ما استمرت في سياستها الحالية.

وباختصار، فإن وراء العواصف المعلنة والغبار الكثيف الذي يغطي سماء إيران، عوارض ضعف للكيان السياسي الإيراني «الثوري»، حيث يتزايد عدد الإيرانيين في الداخل والخارج، الذين باتوا يعون ذلك، ويعلنون فشل منطق «الثورة» الذي ورّط المجتمع وأضعفه، وورّط النظام السياسي-العسكري في هذه المغامرات والمعارك التي لا تكاد تنتهي، وأنه لا خلاص لإيران إلا باستعادة وضعها كدولة طبيعية «وفقاً لتوصيف القانون الدولي»، وهذا يقتضي بالضرورة قلب صفحة «الثورة»، وتصحيح الصورة لتكون إيران جزءاً من عالم اليوم.