تعقيباً على مقالة «طيران فوق نظام التفاهة»، المنشورة في هذا الفضاء قبل أيام قليلة كتب لي أحد الأصدقاء القدامى رداً مطولاً، اختصر أهم ما جاء فيه لأهميته في استكمال الموضوع: «أتفهم عميقاً ما تستشعره من قلق فكري وإنساني تجاه ما يحدث في عالم اليوم الذي يمكن وصفة بعالم التفاهة، بصفاء النفس ونقاء الحس ورهافة الضمير وحدة الحساسية، من إحباط يوجبه الواقع العياني المشاهد قبل أن يوجبه الوجدان المكابد. لكن كان سيكون إحباطي أكبر من إحباطك إن أهدرت فرصة استكمال ملف التفاهة الذي أثرته من خلال مقالك حول الكتاب المنوه به، ففيه كوى ضوء على عوالم وعي مطارد وأجراس تنبيه لقيم أصالة مطمورة. وسوف أعتبر مقالتك حول هذا الكتاب الهام «نظام التفاهة» مجرد مدخل بسيط لا يشبع، خاصة وأن تلك المقدمة التي وطأت بها لمقالك تحمل دلالات مهمة في أكثر من مجال، برقي منظوره وموضوعه ومغزاه. بل إنني لأرى أن المقدمة كانت تبشر بمقال مطول تتوالى حلقاته لتلقي كشافات النور على عوالم الظلام الكثيف الذي باتت تكتنف مداركنا..أعرف أن ما يكاشفنا به كتاب «نظام التفاهة»، «بما في ذلك تعريفه للتفاهة نفسها»، يورث في النفس ما يشبه الغصة في الحلق، وصحيح أنه يشير بوضوح إلى ما في هذا «النظام» من ضخامة وتشعب وفاعلية وإحكام وفتك لكنه لا يحرض بالمرة على الإحباط، فمدار الرهان على الوعي تزويراً أو تحريراً، وفي مقابل فيالق الناشطين في غرف التزوير يوجد دائما مناضلون ندبوا أنفسهم «وأقلامهم» لكشف التفاهة ومحاربتها.

إن تزوير «ما هو جدير بالتقدير»، وتنميط «ما يقاس به النجاح»، وتسطيح «ما نحيا لأجله»، نظام عنكبوتي مدهش بإحكامه وتأثيره ولذلك ليست النجاة من أحابيله بديهية أو حتى سهلة، لكنه، مع ذلك، ليس قدراً مقدوراً. وإن مقالاً كالذي شرعت فيه لبنة على درب طويل، يعزز الثقة بسلوكه الرواج الذي لقيه الكتاب والترجمات التي اخترق بها لغات وثقافات عدة.

وإني لأقر بحجم المشقة في الوقوف على لطائف العمارة الفكرية التي نهض عليها الكتاب كما أقر معك بالتهيب الواجب عند التجاسر على هذه العمارة العنكبوتية الكونية التي زورت كل شيء، لكن أسباب التهيب هي ذاتها أسباب الجسارة.

كتبت للصديق رداً على هذا التعقيب: «لقد قرأت الكتاب فأوجعني ما فيه من ملامسات كنا نستشعرها في حياتنا العامة، ولكننا لم نبلور لها رؤية فكرية مثلما بلورها صاحب الكتاب. ومصدر الألم أنى وأنا أقرأ هذا الكتاب كنت استكمل الصورة بالتطبيق على الواقع الذي بات يحمل من التفاهة ما يخنق وبقتل. أما عن الاقتصار على المقدمة فقط، فأمر يعود إلى حساسية الموضوع وصعوبة المقاربة في العديد من التطبيقات السياسية والاقتصادية. لكن دعني أقف عند مظهر واحد من هذا المنزلق، على الصعيد الثقافي العربي. وهو الأسهل في مجال التطبيق. فقد شهدنا خلال العقود الأخيرة، وتزامناً مع استشراء موجة التفاهة وسلسلة الهزائم التي تعرضنا لها كعرب، حالة من الانحطاط العام في الذوق الثقافي والفني، وانحطاطاً في القيم الإبداعية وتراجعاً في «الثقافة الجماعية» و«الجهد الثقافي الجماعي» وفي عمل «المؤسسات الثقافية الجماعية»، نتيجة لاستشراء النزعات «الفردية» و«الانتصار للذات» باعتبارها طوق النجاة الوحيد المتبقي كأفق مميت للعديد من المثقفين والفنانين الذين يتراكضون وراء خلاصهم الفردي، عبر سلوك طريق التفاهة وإراقة ماء الوجه، وتكريس قيم الخواء. وعلى سبيل المثال فقط، فكُتّاب السّخافة وفنانو الاستهلاك، لا نجد في جداول أوقاتهم المزدحمة ولو جزءاً قليلاً لنص أو أغنية تحكي عن الوطن.. من زمن الثوابت والنضال من أجل وحدة الأمة وكرامتها بعيداً عن موجات التفاهة.

ولكن يجب أن نستذكر هنا، بكل التقدير والاحترام، أولئك الذين حملوا لفترة طويلة عبء الالتزام بقيم الفكر والادب والفن الرفيع، فنجحوا لأنهم مزجوا بين الكلمة الملتزمة الصادقة والفن الراقي، وبين هموم الوطن، كل الوطن وهموم الإنسان في كل مكان... فأصبح فكرهم وفنهم يحمل كثيراً من المعاني اللصيقة بالإنسان، فاستحقوا موقع الريادة والخلود، بعيداً عن زمن التفاهة ونظام التفاهة.