^ إن من أهم مراحل ما بعد التخرج، لأي طالب جامعي وفي شتى التخصصات، هي مرحلة التدريب، والتي تعتبر آخر المراحل النهائية قبل استلامه شهادة التخرج. في هذه المرحلة تحديداً، يستطيع الخريج أن يضع أولى خطواته العملية على سلَّم اختياره ورغباته العملية في سوق العمل، بل ربما تكون فترات التدريب، هي التي تحدد له المسار الختامي في اختيار نوعية الوظيفة وربما التخصص المطلوب منه أيضاً. يتدفق على مؤسسات الدولة وعلى القطاع الخاص من كل عام، آلاف من الخريجين في عملية تدريب لهم، لتأهلهم تلك العمليات لدخول السوق، لكن الملاحظ أن عمليات التدريب تلك، لا تخضع لمعايير علمية وعملية، وربما لا تخضع للمراقبة الدقيقة من طرف المنشأة التي يتدرب عندها المتخرِّج، ولا من طرف المنشأة العلمية التي تخرج منها الطالب، سواء كانت تلك المنشأة جامعة أو معهد. إن ما هو حاصل على أرض الواقع، هو نوع من أنواع الفوضى غير الخلَّاقة، فالخريج يندفع بحماس شديد للتدريب، لأنه يريد أن يرى ما تعلمه بالأمس القريب، واقعاً على الأرض، لكنه ينصدم ويصطدم بعقليات متخلفة وجامدة في غالبية تلك المنشآت، فهو لا يتدرب بقدر ما يعمل هناك كمراسل أو (فراش نظيف)، حتى أن بعضهم يصيبه الإحباط والكثير من (القرف)، جراء ما يُسمى بالتدريب، والذي ليس له علاقة بالتدريب العملي وقواعده العلمية على الإطلاق!. هناك من حاملي الشهادات الأكاديمية الكبيرة، يعملون في فترات التدريب عند بعض تلك المؤسسات القاتلة للمواهب والطاقات، وكأنهم يعملون في قسم المستندات والملفات، من أجل (تخريم) الأوراق ومن ثم (تفييلها) فقط، أو حال كان مسؤول القسم متسلطاً ومتغطرساً، فإنه يستغل حاجة ذلك الخريج لإمضائه على فترة تدريبه معه، ليجعل منه (مطراشاً) من دون مراعاة لمستواه العلمي والأكاديمي. هذه الظاهرة منتشرة في كثير من مؤسساتنا الرسمية والخاصة، وهناك الكثير من الشكاوى والمعاناة التي يعاني منها هؤلاء الخريجون، لكنهم لا يفصحون عنها مخافة أن لا ينالوا شهادة التدريب من قِبَلِ تلك المؤسسة. يتحدث البعض ويشتكي خلسة، من طلبة الامتياز (الطب)، من سوء معاملة بعض الأطباء والاستشاريين لهم في فترات التدريب النهائي، والذي يطلق عليها بفترة (الامتياز). هؤلاء الأطباء الصغار من طلبة الأمتياز، يعانون الأمرَّين من سلوك بعض الأطباء المُعَتَقِين، فهم يتعاملون معهم كما يتعامل السيد مع العبد، ويتعاطون معهم بفوقية كريهة، أما التدريب فإنه أقرب إلى المأساة منه للتدريب. يتحدث بعض طلبة الأمتياز من الأطباء المبتدئين بأنهم لا يتدربون في المستشفى بقدر ما يعملون (مطاريش) للأطباء والاستشاريين، أو أنهم يقومون بجزء واحد فقط من كثير من مهامهم كمتدربين، وهو في ملء استمارات المرضى، بينما باقي عمليات التدريب فإنها تجري وفق اجتهاد طالب الامتياز!!. حين تحدثت مع أحد هؤلاء الطلبة عن معاناته في فترة (الامتياز)، وكيف يُعامل وهو (الطبيب) على أنه مراسل للاستشاري أو مسؤول القسم، فقلت له حينذاك، لماذا لا تقدم شكوى للجهات المسؤولة عن سوء وضعك مع هؤلاء الاستشاريين والأطباء؟ فقال لي باستغراب شديد، وهل جُننتُ حتى أفعل هذا الأمر؟... عرفتُ بعد ذلك أن طلبة الامتياز لا يجرأون على فعل هذا الأمر، لأن من يملك مصيرهم ومن بيده ختم وعبور الامتياز نحو المستقبل، هم أولئك الذين لا يبذلون جهداً في تدريب الأطباء الصغار، بقدر ما يدربونهم كيف يكونون مجموعة من (السخرة) في أيديهم. هذه العملية التي يعاني منها طلبة الامتياز ليست وليدة اللحظة، بل هي سلوك اعتادت عليه المنشأة الطبية طيلة عشرات السنين، لكن من هو الذي باستطاعته أن يغير من تلك الثقافة التي تهيمن على واقع أشبه بواقع الأسياد والعبيد؟ ليس هنالك في اعتقادي، أفضل من سن التشريعات الرصينة، في إطارات نُظُمٍ لحلقات التدريب، في كل المؤسسات الخاصة والعامة، وكذلك في إنشاء هيئات مستقلة لمراقبة عمليات التدريب، حتى لا يستطيع أحد أن يستغل أحداً، والأهم من كل ذلك أن يستفيد الخريج من عملية التدريب، ليفيد وطنه ومجتمعه، وأن يعمل حين يعمل في مهنته بثقة متناهية، من دون أن يشعر بأنه كان في يوم من الأيام، أحد (السخرة).
970x90
{{ article.article_title }}
970x90