^ ما يجعل قضية غسيل الأموال، ومن ثم محاربتها، مثار اهتمام حكومات العالم، قبل شعوبه، هو حجم الأموال التي يتم تبييضها سنوياً، بالإضافة إلى نموها السريع. فوفقا لتقديرات مصادر رسمية، أنه وحتى نهاية القرن الماضي، كان “حجم الأموال القذرة التي يتم غسيلها سنوياً حوالى 300 مليار دولار على المستوى الدولي، من بينها حوالي 85 مليار أرباح تجارة المخدرات فقط”. لكن وكما تشير العديد من التقارير، شهدت هذه التجارة القذرة نمواً فلكياً منذ مطلع القرن الواحد والعشرين. فقد أظهر تقرير لمنظمة الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، نقله موقع “المصري اليوم” عن وكالة أنباء الشرق الأوسط “أن حجم الأموال التي تمكن المجرمون في العالم من غسيلها بلغ حوالى 1.6 تريليون دولار أمريكي، بما يساوى 2.7% من إجمالي الناتج الداخلي العالمي في عام 2009، ... وأن أقل من 1% فقط من التدفقات المالية العالمية غير المشروعة الناتجة عن الاتجار في المخدرات والجرائم المنظمة الأخرى العابرة للحدود يتم مصادرتها وتجميدها”. لكن تقريراً آخر صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية في العام 2008، نشرت صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية ملخصاً له، يقدّر حجم الأموال المغسولة بما يفوق ذلك، إذ يقدر ذلك التقرير “حجم تجارة غسيل الأموال نحو 3.61 تريليون دولار، وهو أكبر من الميزانية الأمريكية حينها، وما يعادل 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد العالمي، بعد أن كان يبلغ (غسيل الأموال) 300-500 مليار دولار في عام 1997”. ومما يؤسف له أيضاً، وكما يشير ذلك التقرير، أن نمو وسائل الاتصالات وتطورها ساعد كثيراً على اتساع نطاق هذا النوع من الجرائم ، ذلك لزيادة عدد وحجم ، كما يقول التقرير “التحويلات الرقمية أو تلك التي تتم عبر الهواتف الجوالة، و تحتاج إلى اهتمام خاص، ... فهناك أقل من مليار من الحسابات المصرفية في جميع أنحاء العالم، ولكن في المقابل يوجد أكثر من 3 مليارات من الهواتف الجوالة”. وفي سويسرا وحدها بلغ حجم تجارة غسيل الأموال، طبقاً لبيانات للهيئة السويسرية لمحاربة غسيل الأموال، والتي أوردتها صحيفة “الوطن” السعودية، “خلال عام 2007 نحو 921 مليون دولار مقارنة مع 815 مليون دولار عام 2006 بزيادة نسبتها 13% “. وقد نمت هذه الظاهرة، وباتت تتغلغل في صفوف مؤسسات قائمة، أو أخرى تؤسسها الجماعات التي تقف وراء هذه التجارة القذرة، ففي روسيا وحدها، تقدر وزارة الداخلية الروسية عددها “ بنحو 80 ألف مجموعة تعمل في مجالات المخدرات وتزييف النقود وغسيل الأموال غير المشروعة، وهي تسيطر على قرابة 40 ألف مؤسسة مالية في روسيا حيث تجري عمليات غسيل الأموال التي تضفي الشرعية وتخفي المصدر الأصلي للمال، تصل قيمة عملياتها إلى نحو 15 مليار دولار على الأقل”. ولا يقتصر الأمر على الدول المتقدمة وحدها ، فعلى المستوى الإقليمي، وفي قارة تعاني من تدني مستوى المعيشة، بلغ حجم غسيل الأموال في غرب أفريقيا (جيابا)، كما، كشف عنها في العام 2011 رئيس مجموعة العمل الحكومية لمكافحة غسيل الأموال في هذه المنطقة، عبدالله شعيبو، نحو 337 مليار يورو سنوياً، الذي حذر أيضاً من الآثار السلبية لتلك العمليات، حيث “أن المبلغ الناجم عن التهرب الضريبي يتراوح بين 73 و74 مليار دولار، مضيفا ان غسيل الأموال يمس كافة القطاعات ولكن يوجد منهم الأكثر تضررا مثل المؤسسات المالية”. ويحصر الكثير منا الأثار السلبية المدمرة التي ترافق عمليات غسل الأموال في الجوانب الإقتصادية المباشرة. لكن دراسة قيمة لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة دمشق حملت عنوان “دور النقود الإلكترونية في عمليات غسل الأموال”، من إعداد بسام أحمد الزلمي، وإشراف عبود السراج ألقت الضوء وبشيء من التفصيل العلمي الموثق على مختلف الجوانب: الإقتصادية والاجتماعية، وكذلك السياسية، التي تفرزها عمليات تبييض الأموال. فعلى الصعيد الإقتصادي تؤدي عمليات غسل الأموال، كما ترى الدراسة “انخفاض قيمة العملة الوطنية. ويتحقق ذلك عبر آليات متعددة ... و إحداث التضخم أو زيادة معدلاته إذا كان موجوداً بالأصل .... وانخفاض معدلات الاستثمار بسبب نقص التمويل ... (يترافق ) مع انخفاض معدل الادخار الذي هو مؤشر على سلامة اقتصاد، ... و عجز ميزان المدفوعات نتيجة التهرب من دفع الضرائب، وزيادة الإنفاق العام لمواجهة غسيل الأموال، و إفساد المصارف نتيجة المعاملات غير المشروعة التي تتم فيها”. لكن الأخطر من كل ذلك، وكما يأتي في الدراسة، هي الآثار الاجتماعية حيث تقود عمليات غسل الأموال إلى “ارتفاع معدلات الجريمة، كتجارة المخدرات أو السرقة، (إلى جانب) تدني مستوى المعيشة وانتشار الفقر ... ( كما ان ) تزايد معدلات جريمة غسل الأموال يؤدي إلى زيادة الغني غنى”والفقير فقراً ، وينقسم المجتمع إلى طبقتين واضحتي المعالم طبقة غنية وطبقة فقيرة، وتنعدم الطبقة الوسطى التي يعد وجودها مؤشراً على وجود العدالة في المجتمع”. في ضوء كل ذلك، لم تعد القوانين، ولا التصدي المنفرد لدولة معينة، قادرة على مواجهة هذه التجارة القذرة، التي باتت، كما رأينا، آثارها الإقتصادية والإجتماعية المدمرة، تتطلب تضافر جهود العالم اولا، ووضع القوانين الصارمة ثانيا، وتنفيذ الخطط الجماعية الدولية والإقليمية ثالثا. هذا غن أردنا بناء مجتمع سليم لا مكان فيه لمثل تلك الجرائم، او تلك الآثار السلبية التي تفرزها.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}