^ تصوروا أن الإدارة الأمريكية بطم طميمها منزعجة من إيقاف مواطن حقوقي في بلد من البلدان، لأن الشرطة في بلاده أوقفته لأنه قاد أو شارك في مظاهرة غير مرخصة!! هذا أمر طيب ولا نختلف معه مطلقاً، بل نتمنى أن ترتفع درجة انزعاجها كلما تعرض حقوقي أو غير حقوقي لأي نوع من التعسف أو الظلم أو التعدي. من المهم أن تنزعج الولايات المتحدة الأمريكية كدولة ديمقراطية عظمى، ونريدها فعلاً أن تنزعج حقيقة لا مجازاً، مما يتعرض له آلاف من البشر في أفغانستان وباكستان وفلسطين بالقتل العشوائي، دون أدنى احترام للإنسان وكرامته وحقه في الحياة والوجود وحق البلدان في الاستقلال والحرية والسيادة على أراضيها وسماواتها وبحارها. نريد من الإدارة الأمريكية أن تنزعج من حصار غزة الأبدي ومن القتل اليومي للفلسطينيين جوعاً وعطشاً وقصفاً وعصفاً بالحقوق الإنسانية المهدورة، نريدها أن تنزعج من استمرار احتلال الأراضي العربية والفلسطينية منذ 1967. كما نريدها أن تتوقف عن التدخل في شؤوننا العربية وتتركنا لنحل مشكلاتنا بأنفسنا، إذ بدا واضحاً أنها غير معنية بهذه السيادة التي أصبحت على رأس العناصر المستهدفة في مناخات التحوّلات العالمية الجديدة التي أسقطت معاني السيادة في تجارب على شاكلة الحالتين العراقية والأفغانية باسم ديانة عالمية جديدة هي الديمقراطية الليبرالية المحفوفة بكل صنوف الشروط والتلونات الباحثة في مجملها عن الصيغة الأمثل لحماية مصالح رأس المال والمجمعات الصناعية - العسكرية، كما قد تبرز أحياناً في صيغ الإصلاح السياسي المفروض من الخارج، أو التعبير عن الانزعاجات “ذات الطابع الإنساني” بما يفتح المجال أمام مسارات غامضة من الإطلال على المجهول والتشكيك في قيم الديمقراطية والتقدّم المتفقة مع ظروف كل بلد ومع تركيبته الاجتماعية - الاقتصادية والقيمية. إن التدخل في الشؤون الداخلية للدول يعتبر من أسوأ ما يمكن أن يعتري العلاقات بين الدول -بما في ذلك التعبير عن الانزعاج من شأن داخلي صرف يتم التعامل معه وفقاً للقانون والقيم الإنسانية والتزامات الدولة تجاه مواطنيها وتجاه ما وقعت عليه من عهود دولية- ولكن ولتحسين صورة هذا التدخل تضاف له صفة “الإنساني” أو الديمقراطي، لتبرير النكوص عن واحد من أكثر المبادئ رسوخاً في القانون الدولي، وهو “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول”. هذا التدخل الذي بدأ يهدد الأوضاع القائمة والتي على أساسها يقوم الأمن الدولي والاستقرار الذي يؤمن للشعوب فرصة العيش والبناء والحرية، خاصة في البلدان الصغيرة في ظل البنية أحادية القطب انفردت فيها الولايات المتحدة بمقاليد الهيمنة العالمية. حيث يبدو أن على هذه الدول أن تتبنى الأطروحات الأمريكية طوعاً أو كرهاً أو أن تخاطر بمواجهة مفتوحة ينبغي أن تتحسب لها بأقصى درجة من “العقلانية والحسابات الرشيدة”، خاصة وأن البنية القيادية الراهنة للنظام الدولي أتاحت للدولة العظمى الوحيدة سيطرة كاملة على مجلس الأمن مكنتها من أن تستظل كثيراً في تدخلها في شؤون الدول بما يسمى بالشرعية الدولية، وقد شهد العالم فصولاً من هذا التدخل” باسم الحرية” أحياناً، وباسم “الأمن الدولي ومحاربة الإرهاب” في أحيان أخرى، إضافة إلى المواجهات المحتملة والمنتظرة والقائمة مع كل من كوريا الشمالية وسوريا وإيران، فهذه الأنظمة -وإن تفاوتت أوضاعها من حيث هامش المناورة وامتلاك أوراق المقايضة وصلابة الإرادة وامتلاك الشرعية الداخلية- فإنها أمام خيارين أحلاههما مر، وإن تأجلت المواجهة وتأخر الخيار