تحت كمامات الهلع من فيروس كورونا، تجري بين دول العالم حرب باردة جديدة اسمها «الكرنتينا السياسية»، والكرنتينا Quarantine تعني «محجر صحي» والحجر الصحي عزلة إلزامية، تقوم بها الدول والمنظمات الإقليمية والدولية عند انتشار الأوبئة. ويبدو أن الأمر لم يختلف كثيراً عما كان عليه في الخليج قبل قرنين. فقد تبعت الأوبئة التواصل الحضاري عبر البحر، وبالأخص من الهند وفارس والعراق. لقد كنا تحت الحكم العثماني بشكل أو بآخر، وكان هناك اهتمام عثماني بمكافحة الأوبئة، حيث صدر نظام الكرنتينا «الحجر الصحي»، منذ 1840، ونص على تأسيس دوائر الحجر الصحي في الولايات العثمانية. لكن أول من أشار إلى ضرورة توفير الحماية الصحية للخليج هو الدكتور البريطاني «بروست»، بمؤتمر البندقية 1892، طالباً اتفاقاً بين الحكومة العثمانية ودول أوروبا لمراقبة سفن المناطق الموبوءة، وأكد ذلك بمؤتمر باريس 1894 وقدم تقريراً حول خلق رقابة جدية على السواحل الخليجية.

وقد عرف العالم في ذلك الزمن استخدام الحجر الصحي لأسباب سياسية، حيث كان المسافرون يحجزون 10 أيام أو أقل، أو أكثر بناء على العلاقات مع الدولة التي قدموا منها. كما شمل الحجر الصحي الإعاقة لأسباب سياسية للرزم والطرود والبضائع على السفن، حيث تم الاستخدام السياسي لحجز سفينة من دول منافسة 40 يوماً لتفسد بضاعتها من المنتجات الزراعية، فلا تعاود الرسو في هذا الميناء، وهذا ما كانت تفعله بريطانيا في الخليج مع السفن الفرنسية والروسية والألمانية بحجة منع الأوبئة. ولأن من يقوم على سلطة الكرنتينا هي الدولة المسيطرة، فقد أراد عارف باشا والي البصرة العثماني إشعار مبارك الصباح 1897 بتبعيته للعثمانيين فأرسل موظفاً لإقامة مكتب حجر صحي، لكن مبارك رفض، ودفعه هذا مع دوافع أخرى لتوقيع اتفاقية الحماية مع بريطانيا 1899. لقد كان ذلك في القرن الـ19، ومع كورونا الحالية عادت الانتهازية كطبيعة إنسانية، وكأن العالم خالٍ من المنغصات الدولية ليعرف حقيقته الهشة المليئة بالثغرات المفرغة من شحنتها الحضارية، عبر ممارسة نفس إجراءات كرنتينا القرن الـ19 بشكل أو بآخر كإغلاق الحدود من باب المعاملة بالمثل، بدون ضوابط أو دواعٍ صحية، وحظر دخول للمسافرين من الدولة التي منعت مواطنينا من دخولها. كما يتم حالياً تبادل وقف الرحلات الجوية. بل وتبادل الإشاعات الإعلامية، وفي دول الخليج أوقفت التصاريح والفيزا وأوقفت الزيارات، مما دفع دولاً لمنع دخول بعض الجنسيات الخليجية. كما ظهر دور المنافسات التجارية، لمنع نمو دولة غريمة، بل وصل الأمر إلى إدخال مناكفات العصبيات الطائفية.

* بالعجمي الفصيح:

كانت الإجراءات القاسية التي اتبعت في كارنتينا القرن الـ19، ما هي إلا وسيلة لإفراغ جيوب التجار وقباطنة السفن والمسافرين خلال الأيام التي يقضونها في الحجر، أو لمنعهم من تكرار الرسو في موانئ بعينها. ويبدو أن الأمور حالياً تنحى نفس المنحى بوضع الأمور على طاولة تعاملات مختلفة من دوافع صحية إلى سياسية واقتصادية.

* كاتب وأكاديمي كويتي