أن تكون مثقفاً، أن تكون كاتباً جوالاً في المقاهي وعلى الأرصفة، أن تكون أنت نفسك مهما تغيرت الجغرافيا وتبدلت الأحوال من دون ماكياج أو تزييف في زحمة الجغرافيا والألوان واللغات بين وجود وعدم، أن تكون كذلك فأنت مازلت تمتلك الروح التي يكون بها الإنسان إنساناً.

عندما تسير في الشوارع وترى كل تلك الوجوه والألوان والأشكال واللهجات والسحنات، فإنك لا ترى في النهاية سوى الإنسان يلفه المكان والنور والظلام والنسيان والخوف من الفيروسات غير المرئية الذي كسر الادعاء والغرور، ولا ترى سوى القلق الدائب والحلم الذي لا ينقطع في رحلة الهواء والهراء الطبقي والقبلي والطائفي، التي لم تنجح سوى في إيقاظ الحروب والنزعات التدميرية التي تسلب من الإنسان أفضل ما عنده.

الصدق فيما نكتب وفيما نقول هو أهم ما يطلب من الإنسان اليوم، النزاهة فيما نكتب وفيما نقول يعني فيما يعنيه كسر قشرة اللياقة المزيفة والوقاحة الفجة في آن، بحيث يمكن لنا اتخاذ موقف مُعارض حتى للرأي العام نفسه، عند الضرورة، ولكن من دون خدشه، أي أن نعمد إلى نقده من داخل المنظومة، وليس من خارجها، لأننا شركاء في القيم المشتركة وفي الإنسانية.

تلك هي الرسالة التي يجب أن نمررها فيما نكتب، خاصة في زمن الأزمات، بعيداً عن نزعات الهراء الطائفي والطبقي وبعدياً عن منطق التشفي وتجريد الإنسان من إنسانيته وكرامته أو التنكيل به. وهذا يتطلب الاستنجاد بما يشبه إلى حد كبير روح الطفولة التي توحد العالم وتوحد الإنسان في كل مكان لمواجهة موجات الكوارث الكاسحة التي تقتلع الكثير من الغرور والادعاء والاحتماء بالهراء. فتحرير روح الطفولة فينا مهمةٌ أساسية في أي عمل إنساني أصيل ومؤثر، بل إن مدار بقائنا يتوقف على قدرتنا على تحرير الطفل فينا، وهذا قطعاً واحد من الأسئلة الاجتماعية الأهم في عصرنا المهدد بالأزمات الكبرى «الصحية – البيئية – الاقتصادية – الأمنية – الأخلاقية...».

وعندما تكون كاتباً من خارج هذا الاشتباك الوقيعي، يتعين عليك في بعض الأحيان في أن تهرب موضوعك إلى جهة لا يراها أصحاب الأجندات في لحظة تجردهم من إنسانيتهم، وعليك أن تدرك أنك ما دمت في الأرض، فكل ما تلمسه يداك يهرب، ويختبئ، وإنك مضطر إلى اللجوء إلى علم الخربشة المجنونة لتكون كتابتك خارج منطقهم ومنطقتهم، وربما ضمن منطق من دون ذاكرة! تماماً مثل الخربشات المبهمة التي هي جزء من ذلك المسحور المخبوء، المسكوت عنه، لأنها شفرات جديدة أو كائنات لم يقع تسميتها بعد. أو هي مجرد خربشات بلا ذاكرة. فهل يمكن بناء نظام دلالي شديد الكثافة والتنوع حول هذه الكتابات التي نراكمها على وجوه طاولاتنا، على واجهات جدراننا العارية، على ورق ملقى على سبيل الصدفة، على صفحات مذكراتنا الخاصة وغير المعدة للنشر أو على جدران أرواحنا؟ ألا تعتبر قراءتها ضرباً من البذخ الفكري أو التطواف المجاني التجريبي في بناء فكرة استقرائية على قاعدة غير معدة بعد للتأويل؟ وهل يمكن اعتمادها كوثيقة لتحليل إحداثيات تحول في المنطق المنظم لحياتنا ولوعينا؟ وهل يمكن أخيراً قراءتها كوثيقة باعتبارها احتجاجاً على رحلة الهراء الطبقي والقبلي والطائفي التي تغرقنا في لا إنسانيتها وتزكمنا بروائحها الكريهة؟

سوف لن يكون ممكناً أو ضرورياً الإجابة عن هذه الأسئلة، لانخراطها ضمن ما يمكن تسميته بفلسفة المخلفات والمتروك الرمزي غير المعاد تكوينه لإنسان قلق في حضارة قلقة تهتم بالأقفال والإغلاق أكثر ما تهتم بالمفاتيح، وتحتفي بالأجوبة الجاهزة أكثر من احتفائها بالأسئلة الحية الحيوية. هذا ما أدركه الفلاسفة والمفكرون، الذين فهموا ضرورة الخروج عن الكتابة بمعناها القديم، بما هي قول شيء ما في شيء ما قولاً نهائياً كاملاً ناجزاً وغير مثقوب على صفحات اللغة المكتملة المتعالية.

* همس:

أنا وأنت...

وجميع تفاصيلنا السائلة،

أحوالنا حقيبة سفر قديمة.

«عابرون في زمن عابر»

كلماتنا ظلمة الهراء تائهة

وسط ركام الأسئلة

تتلاشى

بين شفاه لا ترى

ومتاهات تتوسع.