«أنت مصاب بفيروس كورونا» عبارة وقعت على مسمعي وقع السهم، حبست أنفاسي وشلّت تفكري، كانت الملابس البيضاء تتراقص حولي، ليت شعري لم يعد اللون الأبيض يعني لي السلام والراحة، بل بات يرتبط بسرير المرض، الفريق الطبي أعلن الطوارئ من حولي وعيونهم ذات النظرات الجادة والمطلة من خلف الكمامات تعج بالقلق والحيرة، وتمتد إليّ أيادي الرحمة ملبسة بقفازات حذرة حتى أحسست بأنني مخلوق ينفث سُما على كل من حوله. لحظات وأكون أحد الأرقام المُعلنة على شاشات التلفاز، وحسابات الإعلام الاجتماعي، سأضيف رقماً جديداً إلى إحصائية المصابين، فدعوت الله أن أكون ضمن إحصائية المتعافين لا المتوفين.

وقف أمامي الطبيب وسألني بمن التقيت؟ شعرت أنني أمام استجواب محقق نيابة، فأنا الآن جاني، ياله من سؤال إنساني، مخاوفي على صحتي، وأنساني الخوف من لبس آخر رداء أكتسي به في هذه الدنيا إنه الرداء الأبيض «الكفن»، لم يعد يشغل بالي سوى سؤال واحد إلى من نقلت هذا الفيروس؟ وعلى من جنيت؟ تذكرت زيارتي لأمي وأبي، ويحي هل سأكون أنا السبب في وفاتهم؟ وتلك زوجتي هل سأتسبب في إبعادها عن ابنتنا حين تُحجر؟ وصغيرتي التي لا تغادر أحضاني هل ستتجرع الآلام بسببي؟ يااااه مسكين جارنا ذاك الشيخ الجليل الذي قبلت رأسه احتراما وتوقيرا، أتراها قبلة قاتلة؟، وزملائي في العمل كم سيعانون بسببي؟ قائمة طويلة من أحبتي وأقرب الناس إلي تسببت في مرضهم ولا أدري قد أكون السبب في موتهم، شعور بالذنب أقسى من صدمة خبر مرضي، شعور بالذنب جعلني أتضرع إلى الله ألا يصابون بهذا الفيروس الذي لا يرحم صغيرا ولا شيخا، دعوت لهم وتضرعت حتى نسيت أن أدعو لنفسي، وأنساني الذنب همّ مرضي.

نعم أنا الجاني، أقر وأعترف بذنبي، فكم قرأت التحذيرات الصادرة من الفريق الوطني للتصدي لفيروس كورونا (كوفيد 19)، وكأن هذه التحذيرات لا تعنيني، ولكأن عبارات التوعية لم تكن موجهة لي، كنت أشعر دائما أنهم يخاطبون آخرين سواي، لم أتخيل أن هذا الخطاب يعنيني.

نعم أنا الجاني، فقد كنت على علم بجميع تعليمات حماية الآخرين من العدوى «لا مصافحة، لا عناق، لا تقبيل، أغسل يديك....إلخ» كنت أحفظ هذه التعليمات جيدا، بل كنت استذكرها مع زملائي في العمل، أجل أعرفها وأحفظها عن ظهر قلب، لكنني تهاونت في تطبيقها، ليس عناداً، ولا تكبراً، إنما كنت استبعد أن أكون أنا المصاب الذي يُصيب، وكأن تلك النصائح مجرد ترف لا داعي لها. ليتني وليتني وليتني التزمت. لقد فات الأوان ولا يجدي الندم.

ساقتني الممرضة بعدما انتهيت من الإدلاء بأسماء الضحايا الذين أصابتهم سهامي، وسرت إلى عالمي الجديد مطأطئ الرأس كما يفعل أي مذنب مقر بذنبه، وجدت نفسي أمام سرير طبي في غرفة مشتركة، سيكون هذا سكني لأجل غير مسمى، هنا صرخت ليتني!!!! ليتني التزمت بالجلوس ببيتي، مع زوجتي وابنتي، كنت أتجاهل نصائح حملات التوعية «خليك بالبيت»، والتعليمات التي أجدها كلما فتحت هاتفي، أو شاهدت التلفاز، أو استمتعت إلى المذياع، بل إنني تجاهلت رجاء زوجتي وتوسلها، «خلك بالبيت» كم صرخت بوجهها عندما كانت تنهاني عن الخروج خوفاً على صغيرتنا، فأصرخ في وجهها مصبا عليها الاتهامات، لا تبالغي، أنت جبانة، أنت تهولين الأمور، بل أنت تستغلين الفرصة لتمنعيني من زيارة أهلي وأصدقائي.

آه !!!! كم كنت أكره الجلوس في المنزل طوال اليوم، لا أنكر أنني حاولت فأمضيت يوماً طويلا في البيت، لكنني أنهيته بثورة غضب قائلاً «كورونا» ولا الحبس في البيت، فها أنا اليوم أحبس مع «كورونا» في هذا السرير، ووسط أناس لا أعرفهم مقنعين بكمامات تقيهم مني. ليتني جلست بالبيت. لكنت أسعد حالاً من الجلوس على سرير المرض.

تلك مذكرات يومي الأول على سرير «كورونا»، خططتها بأحرف الندم لأرسلها لكم علكم تنجون بأنفسكم وبأحبتكم، فلا تقعوا في فخ التجاهل والاستهتار كما فعلت، أرسلها لكم كي لا تكرروا خطأي ولا تتجرعوا كأس الندم، فهو كأس مر صعب المذاق، فقد استصعبت الالتزام بتعليمات الوقاية لأجد نفسي مضطرا للالتزام بتعليمات العلاج وهي أصعب وأقسى، فها أنا قد وقعت في فخ «كورونا» وأوقعت أحبتي معي، فالتزموا تسلموا... حفظكم الله، ودمتم أبناء قومي سالمين.