كان من الصعب تتبع تفاصيل قضية «وثائق بنما»، التي مرت خاطفة جداً، لأسباب حساسة جداً. إذ لم تتعامل معها أغلب وسائل الإعلام، وسريعاً ما أغلقت ملفات التحقيق التي فتحت لداوعي الحرج فقط. ملفات وبيانات القضية الضخمة التي يعود عمرها إلى أكثر من أربعين عاماً، كشفت عن شركات واستثمارات وحسابات وهمية لآلاف الساسة والأغنياء التي أسسوها في جمهورية بنما باعتبارها ملاذا آمنا للثروات الطائلة يصعب تتبع مصادرها أو احتساب ضرائب عليها. هذه الاستثمارات كشفت عن أعمال فساد كبرى وعن غسيل أموال وتجارة غير مشروعة، وحرمان الدول من مليارات الدولارات التي تستحقها كضرائب من الأغنياء. ولكن كانت «حبكة» الاستثمارات ذكية لم تكشف عن ثغرات اقتصادية. كما توفيت الصحافية الألمانية التي كشفت القضية في تفجير غامض في مالطا. تفشي فيروس كورونا أعاد الوعي الجمعي للبشرية للتدبر حول محورين جوهريين فرضتهما الأزمة. الأول هو هيكلية النظام السياسي للدولة ودوره في التصدي لتفشي الفيروس. هل فعلا ثمة ديمقراطية حقيقية؟ كيف تمكنت دولة مثل الصين التي يصفها البعض بأنها استبدادية وغير شفافة من امتصاص الصدمة الأولى لتفشي الفيروس ومحاصرته وتحجيمه في أقل من ثلاثة أشهر. بينما يواجه النظام الصحي في دول أوروبا وأمريكا التي، توصف بأنها ديمقراطية وعادلة وشفافة وحامية حقوق الإنسان، تهديداً بالانهيار الكامل. وهل حقاً ثمة عدالة اجتماعية ودولة مؤسسات؟ وما فاعلية السلطة السياسية في خدمة كافة المواطنين؟ المحور الثاني هو القيم الحاكمة للبشرية ودورها في تخليص الإنسان من معاناته البدائية والأزلية. فالحداثة الغربية أنتجت الفردانية التي ولدت روح الانعزال الاجتماعي والأنانية وحب الذات والبراغماتية الشخصية. وزادت العزلة الذاتية مع وسائل التواصل الاجتماعي التي انغلق فيها الفرد عن التواصل حتى مع من يشاركونه الغرفة. وأفرزت الحداثة كذلك العولمة التي بددت هوية المرء وفتحت له المجال لاختيار من يكون كونيا حتى وإن انفصل عن محيطة.

والاتجاه الخطير الذي انزلقت إليه الكرة الأرضية بتبني الليبرالية الجديدة، بل وفرضها من قبل منظمات كونية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أعاد البشرية إلى صيغة محدثة من صيغ الإقطاع. حيث يمتلك الأقلية «الأوليغارش» أغلب ما في الكرة الأرضية. ويعيش باقي الأغلبية ما بين الطبقة الوسطى المسحوقة وتحت خط الفقر. وذلك نتيجة سياسات السوق المفتوحة وتحرير التجارة، وخفض الأجور وتقليل العمالة، واستغلال الفقراء والأطفال والعمالة المهاجرة، وتجارة الرقيق الأبيض، وزيادة الضرائب على عامة الناس، وإعفاء كبار التجار وكبرى الشركات من الضرائب بدواعي الاستثمار. وكانت الورطة التي أدت ببعض البلدان إلى انهيار اقتصادها وإعلان إفلاسها تبني سياسيات السوق المفتوحة بتنازل الدولة عن إشرافها عن الخدمات العامة وإدارة الاقتصاد. وتحويل كل ذلك إلى عمليات الخصخصة وإدارة رجال الأعمال أو الشركات الاقتصادية المتخصصة في الإدارة العامة.

الحال الذي تقف فيه الدول الغربية وحيدة ومعزولة في حربها مع فيروس يتفشى بسرعة مرعبة. دون دعم من الشركات عابرة القارات، ودون تدخل من أصحاب المراكز الأولى في ترتيب أغنياء العالم. هو حصاد لسياسة الليبرالية الجديدة التي تراجع بموجبها دور الدول في إدارة الخدمات العامة وتحويل نسبة كبيرة منه إلى القطاع الخاص. وتقلصت فيه ميزانيات التعليم والصحة وتشييد البنية التحتية ودعم الفئات الفقيرة، أمام رفع ميزانيات التسليح والحروب ومكافحة الإرهاب. ومع بداية الألفية الثانية زاد نشاط الجماعات المدافعة عن سلامة البيئة والمنددة بالتغير المناخي. الذي تعود أكبر أسبابه إلى سياسات الاستثمار والتصنيع الجائرة التي لوثت المياه وربما تورطت في حرق الغابات وأعطبت المساحات الخضراء والخصبة لرفع الأسعار واحتكار السلع. ولكن كان صوت الأنظمة السياسية اليمينية المتطرفة والنيوليبرالية والشعبويون الجدد أعلى بكثير ونفوذهم أقوى.

صور البشر في العالم الغربي وهم ملقون في ممرات المستشفيات التي عجزت عن استيعابهم. صور الطواقم الطبية المنهكة الباكية وهم يتوسلون الناس للمكوث في بيوتهم للحفاظ على حياة الطواقم الطبية المحدودة. وصور المرضى في المنازل وهم يواجهون الموت، ويصاحبون جثث أهاليهم لزمن حتى يتم انتشالها. صور المقابر الجماعية التي يلقى فيها مئات الموتى في أكياس بلاستيكية دفعة واحدة... هذا المشهد المأساوي المتكامل هو التعريف الإجرائي للليبرالية الجديدة.