ألم أقل لكم إن لهذه الأزمة -و لكل أزمة - إيجابياتها، واحدة منها أعادت هذه الأزمة صياغة علاقة الرجال بأبنائهم.

وخير ما يمثل إعادة الصياغة هذا الفيديو الذي وصلني وهو عبارة عن طفل يلعب لعبة «الكيرم» مع والده ويضحك معه من قلب فرحاً و سروراً بتسجيله نقاط على أبيه، وفجأة سكت الولد ثم سأل أباه سؤال بطريقه عفوية «ذبحني من الضحك»، إنما بقدر ما هو مضحك هذا السؤال كان مؤلماً جداً.

الولد: «يبه.. أنت احين بتسكن معانا؟».

الولد ترجم بعفوية تامة مشاعر ملايين الأطفال وبدون تفكير ليكشف عن الصورة الذهنية عن البيت بالنسبة للأب، وهي صورة تدل على أن البيت لم يكن سكناً ثابتاً ودائماً. فحضوره غير حضورهم هم، حضوره في البيت مؤقتاً ومتقطعاً؛ لذلك ظن هذا الولد أن أباه المتواجد دائماً في البيت بسبب الالتزام التعليمات بالتباعد الاجتماعي قرر أن يسكن معهم الآن فقط!

أعتقد أن العديد من أطفال هذا الجيل سيشكرون «الكورونا»، لو قدر لهم لأنه أجبر آبائهم على الجلوس معهم، وربما التعرف عليهم من جديد، وأنني على ثقة بأن العديد من الآباء سيكتشفون في زمن الكورونا أن هناك مراحل نمو مرت على أطفالهم ولم يلحظوها وسيكتشفون أن أبناءهم كبروا وعقليتهم وطريقة تفكيرهم نمت دون أن يلحظوا ذلك في غيابهم.

غياب الأب القصري عن المنزل بسبب العمل أمر لابد منه، وتتفهمه الأسرة سواء الزوجة أو الأبناء، خاصة أن حرص ذلك الأب على تعويض فترة غيابه بالعطلات، وبانتهاز الفرص لسد النقص. ولكن غياب الكثير من الرجال (ولن أقول الآباء فالأبوة ليست مكسب تلقائي) بسبب القعدة في المقاهي أو القعدة في المجالس، بحيث لا يراه أبناؤه إلا عند وجبة الطعام وقبل خروجه العصر والمغرب وغالبيتهم ينامون دون أن يروه. فرسخت تلك الصورة الذهنية التي ترجمها ذلك الطفل عن علاقة هذا الإنسان -الذي هو الأب- بمنزله، إنها علاقة فندقية، يحضر ليأكل وينام فيه فقط، لهذا أراد أن يطمئن أن أباه (سيسكن) معهم بعد الأزمة!!

عقلية الأطفال غامضة للكثير من الكبار، وغالباً يقلل من شأنها لهذا نفاجأ كثيراً من أسئلة أو تعليقات الأطفال تكشف عن العمق و البعد الحقيقي لما يدور في أذهانهم، وتفضح جهلنا وعجزنا عن إدراك تلك الذهنية.

رحمك الله يا أبي رغم أنه توفى وعمري ثلاثة عشر عاماً، إلا أن حضوره في البيت لتلك السنوات المعدودة من عمري راسخة بصورها وبأثرها ومغروسة في ذهني وخلقت عندي توازناً نفسياً كبيراً شاركته حل الكلمات المتقاطة وشاركته لعبة الحية والسلالم، وشاركته الاستماع لأم كلثوم وشاركته لعبة المونوبولي، الكثير من مفاهيم وقيم الثقة بالنفس زرعها بكلمة وبعبارة قالها في موقف عابر لازلت استرجعها، فلا تستهينوا بالوقت الذي تمضونه مع أبنائكم وإثره.

أكاد أجزم أن ذلك الأب حتى لو ضحك على سؤال ابنه إلا أن طعم المرارة لابد أنه قد كسى ريقه، وهو يعيد سؤال ابنه بينه وبين نفسه لاحقاً (اوف ألهذه الدرجة كنت غائباً عنه؟)