وردني تعقيب مطول حول مقال سابق منشور في هذه المساحة بعنوان «نظام التفاهة»، من أحد الأخوة القراء، ختمه بسؤال مهم: «الكل يدعي وصلاً بالديمقراطية، مما دفع الكاتب هانز هيرمان في كتابه عن «الديمقراطية: الإله الذي فشل»، يشكك في جدواها، فهل يجب أن يجعلنا ذلك نزهد في الديمقراطية ونتوقف عن المطالبة بها مثلاً؟؟».

كتبت للقارئ المحترم ما ملخصه: إن ما تضمنه كتاب الباحث والمفكر الكندي «ألان دونو»، «نظام التفاهة» يختلف عما تضمنه كتاب هانز هيرمان عن «الديمقراطية: الإله الذي فشل»، وإن كان الكتابان ينتميان من حيث مستوى الجرأة والجسارة إلى نفس الفئة من التحليل. فكتاب دونو صدر عن رؤية جديدة لمقاربة تحولات ما يسميه عالم التفاهة، حيث يتحدث عن نظام «عالمي جديد» هو نظام التفاهة. حيث أصبحنا – حسب رأيه – نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام، أدى تدريجياً، إلى سيطرة التافهين على مفاصله. فالتفاهة سلعة يتم الإعلان عنها كل لحظة وفي كل فضاء، وكذلك الترويج للتافهين، وما أكثرهم: «من كتاب وفنانين وشعراء ورسامين وساسة... يحملون من الأسماء والألقاب والمناصب ما يغطي سحب التفاهة عنهم، ويحققون – على تفاهتهم – شهرة وأي شهرة! كما أن إعلانات تجار المخدرات والرقيق الأبيض أصبحت في مقدمة الصناعات المعمرة في حياة هذا العالم من حولنا. فأصبح هذا هو المعيار، وليست القيم ولا الإبداع ولا كل ما هو محترم في حياتنا هو المعيار.

أما كتاب هانز هيرمان هوبا: «الديمقراطية، الإله الذي فشل»، فهو كتاب إشكالي على نحو مستفز وصادم، لأنه يصل إلى استنتاجات غير مألوفة منها أن: «الديمقراطية فكرة شريرة وفاشلة وخطيرة، والتحول الديمقراطي تدهور حضاري مؤكد»، وأن «الديمقراطية قد تحولت إلى دين عالمي». وأن «أي انتقاد لها قد بات يشكل في الغالب نوعاً من المخاطرة بأنك تصبح عدواً للمجتمع المتحضر». ولذلك يقترح الكاتب الخلاص مما يسميه «ورطة الديمقراطية»، التي لا تؤدي بالضرورة إلى الحرية والتحضر والرفاهية والسلام وحكم القانون، بل قد تؤدي بالعكس من ذلك: «إلى خسارة الحرية وإلى المزيد من الصراعات الاجتماعية وتقويض الحقوق الفردية»، وفي المقابل يقترح الكتاب مثالاً جذّاباً «وهو بناء المجتمع على أساس الحرية الفردية والعلاقات الاجتماعية الطوعية».

وقد يكون في بعض ما جاء في هذا الكتاب بعض السلامة، خاصة بالتطبيق على الديمقراطية التمثيلية في مجتمع جاهل مقسم طائفياً، حيث لا يمكنها إلا إعادة إنتاج تلك البنية المتخلفة، تماماً كما نراها في نموذج الديمقراطية الطائفية في عدد من البلدان العربية، التي تعيد إنتاج المحاصصة وتوزيع السلطة وفقاً لمنطق تقاسم الغنائم. وقد شهدنا مثلاً كيف تصاعد هذا النوع من المطالبات بربط الديمقراطية بتوزيع السلطة والثروة على أساس أثني أو طائفي. ولكن، ومع ذلك، فإني لا أتفق مع مجمل وجهة النظر هذه، لأن مجتمعاتنا تحتاج أكثر من غيرها إلى تعزيز الروح الديمقراطي، وما له من تأثيرات إيجابية على تكريس المواطنة وتفعيلها، حيث لا يخفى أن غياب الديمقراطية يفضي بالضرورة إلى الاستبداد، وإلى تراجع قيم وممارسات المواطنة، فالمجتمعات الاستبدادية تخلو في الغالب من دلالة المواطنة المتساوية، بل إني أرى أن الديمقراطية هي سبيلنا الأمثل لحل أزماتنا السياسية والاجتماعية.

صحيح أن هناك «ظروفاً وحالات واقعية» يمكن فيها للديمقراطية أن تتسبب في انتكاسة أوانتهاك للمواطنة، مثل: التقليل من شأن مواطنة الآخرين، أو امتهان كرامتهم، ومعتقداتهم باسم حرية التعبير، أو انطلاقاً من نزعة عنصرية أو طائفية تحقيرية، وانتشار الصور النمطية عن الآخر، بما يتجاوز القيم والمبادئ الديمقراطية نفسها، إلى نشر التباغض بين مكونات هذه المجتمعات، ولكن ذلك لا يجب أن يقودنا ذلك مطلقاً إلى الكفر بالديمقراطية.

* همس:

فتِش

في ثنايا القلب المتعب،

عن بقايا عشق،

وابحث عن سماه السابعة،

عن آخر جنة ضاعت،

عن قصيدة

من دون كلمات،

أو حروف.