إعداد: القطاع الشرعي بجمعية الإصلاح

الحمد لله الذي حبب رمضان إلى المؤمنين، والصلاة والسلام على إمام العابدين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:



فما أن يهل علينا شهر رمضان في كل عام، إلا وقلوب المؤمنين تهتز طرباً وفرحاً وشوقاً لهذا الشهر الكريم، وما ذلك إلا لأنوارٍ زين الله بها تعالى هذا الشهر، إنها أنوار الطاعة والعبادة والمناجاة، فهذا الشهر شهر الأنوار بحق، والمؤمن يبحث عن النور؛ لكي يزداد نوراً على نور، فشهر رمضان عبارة عن أنوارٍ بعضها فوق بعض، فكيف لك أن تنال هذه الأنوار بقسط وافر؟!

قبل سرد أنوار رمضان لا بد من الإشارة إلى الوسيلة الأساسية لإدراك هذه الأنوار، ألا وهي القلب، فلا بد من أن يكون قلبك متهيئاً لهذا الشهر؛ حتى تدرك تلك الأنوار، وتقبل عليها، وتستفيد منها غاية الاستفادة.

وتهيئة القلب تكون - بشكل أساس - بتنقيته وتصفيته وتخليته، أو بالتعبير القرآني أن يكون قلبك سليماً، والقلب السليم - كما عرفه العلماء - هو الذي سلم من كل شر، بدءاً من الشرك بالله تعالى مروراً بالشبهات والشهوات، ومن كل خصلة مذمومة؛ كالغل والحقد والحسد والشح، والكبر وحب الدنيا، فالقلب السليم هو الذي عليه المدار يوم القيامة؛ قال

عز وجل: "يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم" الشعراء: 88 - 89.

فإذا استطاع العبد أن يصل بقلبه إلى درجة القلب السليم أو ما يقاربه، فإنه بذلك يظفر بأنوار الشهر الكريم وبركاته، فصاحب القلب السليم يجد لذةً في قلبه لا مثيل لها، خصوصاً عند تأديته العبادات ومناجاتِه لرب الأرض والسموات.

وفيما يلي نسرد أهم أنوار هذا الشهر الكريم:

أولاً: الصـــيام

وهو المقصود الأول، والركن الأهم في هذا الشهر، وبالرغم من أن جميعَ المسلمين يشتركون في تأديته، فإنهم يتفاوتون عند الله عز وجل في الأجر والثواب، وذلك بحسب أدائهم الصيام؛ كما أمر الله عز وجل في كتابه وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم من ناحية الامتناع عن المفطرات؛ كالطعام، والشراب، والجماع، وكذلك الابتعاد عما يخدش الصيام؛ كالغيبة والسباب، وقول الزور، وسيء الأخلاق، فكلما كان أداء الصيام قريباً من الشرع، كان هذا الصيام نوراً للمؤمن ينتفع به.

وأفضل سبيلٍ لتحقيق الصيام على الوجه الشرعي المطلوب، هو دراسة باب الصيام من كتب الفقه، أو الجلوس في إحدى حلق العلم الشرعية؛ لتعلم أحكام الصيام، فكلما ازداد المسلم علماً بمسائل الصيام، أدى ذلك إلى تأدية هذه العبادة على أكمل وجه.

ثانياً: القيام

القيام أو التراويح أو التهجد، كلها مصطلحات تطلق على صلاة الليل التي تؤدَّى من بعد صلاة العشاء إلى قبيل الفجر، والقيام له مزية خاصة في هذا الشهر؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم له من ذنبه" رواه البخاري ومسلم. فمن يقيم رمضان - يعني: جميع ليالي الشهر - فإنه سينال مغفرة الله عز وجل لجميع ما تقدم من ذنبه.

ومن تمام النور في قيام الليل: في حين تمكنت من صلاتها في جماعة مع أهل بيتك أن تصلي صلاة القيام مع الإمام حتى ينصرف بالوتر ، من أجل أن يُكتَب لك قيام الليل؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلة" صححه الألباني في صحيح الجامع.

ثالثاً: ختم القرآن

شهر رمضان هو شهر القرآن، ويكفي أن الله عز وجل خصص ذكر القرآن في سياق الحديث عن رمضان؛ للدلالة على أهمية قراءة القرآن، ومدارسته في هذا الشهر، فقال عز وجل: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان" البقرة:185.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان كل عام، فروى يكن في البخاري في صحيحه أن: "جبريل عليه السلام كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه"، وقد كان السلف يتسابقون في عدد مرات ختْم القرآن الكريم، والأخبار في ذلك متكاثرة.

أما مسألة الأفضلية بين ختم القرآن مرات كثيرة وبين ختمه مرة واحدة مع التدبر، فيجيب على ذلك الإمام النووي رحمه الله فيقول: "والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف، فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرؤه، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة، فليقتصر على قدرٍ لا يحصل بسببه إخلال بما هو مُرصد له، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين، فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة"؛ التبيان في آداب حملة القرآن؛ للنووي.

رابعاً: تفطير الصائمين

وقد ورد في فضله ما جاء في السنن بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء"، فهذا أجر عظيم لمن يفطر صائماً، وقد يسأل سائل: بماذا يكون التفطير؟

يقول المناوي في شرحه للحديث في فيض القدير: "من فطر صائماً بعشائه، وكذا بتمر، فإن لم يتيسر، فبماء"، ويقول ابن عثيمين: "ظاهر الحديث أن الإنسان لو فطر صائماً ولو بتمرة واحدة، فإنه له مثل أجره"؛ شرح رياض الصالحين.

خامساً: الدعاء

ذكر الله تعالى في سياق آيات الصيام في سورة البقرة، آيةً عظيمة جليلة تملأ قلب المؤمن رجاءً وأملاً، إنها قوله تعالى: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون" البقرة: 186.

يفهم من ذلك أن الدعاء في هذا الشهر ليس كغيره، فقد خصه الله عز وجل بالإجابة، وقد ورد صراحةً إجابةُ دعوة الصائم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث دعواتٍ لا ترد: دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر"؛ بل حسنه؛ كما في صحيح الجامع؛ انظر: (1/582)، وقد روي في سنن ابن ماجه بلفظ: "إن للصائم عند فطره لدعوةً ما ترد".

سادساً: تأخير السحور

من السنن التي يتهاون فيها كثير من المسلمين: سنة تأخير طعام السحور إلى وقت السحر، فنجد كثيراً يتناولون هذه الوجبة في منتصف الليل على أنها السحور، وهذا خلاف السنة؛ لأن السحور من السحر، والسحر يكون آخر الليل، وقبيل الفجر، وقد قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة، فقال أنس بن مالك لزيد: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية؛ رواه البخاري.

فتناول وجبة السحور في هذا الوقت المبارك من القربات العظيمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تسحروا؛ فإن في السحور بركة"؛ رواه البخاري ومسلم. وتناول السحور من خصائص هذه الأمة؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكلة السحر" رواه مسلم.

فلا بد من الاجتهاد للقيام في هذا الوقت المبارك لأكلة السحور، ولو بشربة ماء؛ قال صلى الله عليه وسلم: "السحور أكله بركة، فلا تدَعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعةً من ماء؛ فإن اللهَ وملائكته يصلون على المتسحرين" صحيح الجامع.

ولا بد من التنويه إلى خطأ التقاويم التي تحدد وقتاً للإمساك عن الطعام قبل أذان الفجر بعشر دقائق أو ربع ساعة، فهذا التحديد غير صحيح، ولا أصل له، بل يجوز الأكل والشرب إلى وقت أذان الفجر.

سابعاً: تعجيل الفطر

من السنن كذلك تعجيل الفطر؛ أي: تناول وجبة الإفطار فور التحقق من غروب الشمس، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر"؛ رواه البخاري ومسلم، فالخيرية في تناول وجبة الإفطار تتحقق بتناول هذه الوجبة فور غروب الشمس من غير تأخير.

ومما يتعلق بالفطر كذلك الحرصُ على تناول ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات، فعلى تمرات، فإن لم تكن، حسا حسوات من ماء"؛ صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.

ثامناً: تحري ليلة القدر

ليلة القدر هي ليلة من ليالي العشر الأخيرة من رمضان، والصحيح أنها غير محددة، وأنها تنتقل في كل سنة من ليلة إلى أخرى؛ قال الإمام النووي: "قال المحققون: إنها تنتقل فتكون سنة في ليلة سبع وعشرين، وفي سنة ليلة ثلاث وعشرين، وسنة إحدى وعشرين، وهذا أظهر، وفيه جمع بين الأحاديث المختلفة فيها"؛ شرح النووي على مسلم.

وهذه الليلة فضلها عظيم، من فاتته، فقد فاته الخير كله، فيكفي أن الله عز وجل قد أخبر بأنها خير من ألف شهر؛ فقال عز وجل:" ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر* سلام هي حتى مطلع الفجرِ" القدر: 3 - 5.

لذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد مئزر".

فينبغي الاجتهاد في هذه العشر أبلغَ الاجتهاد، في الصلاة والدعاء وقراءة القرآن والذكر، فمن يفعل ذلك في العشر الأخيرة كلها، فإنه حتماً سيصيب ليلة القدر بفضل الله ورحمته.

تاسعاً: العتق من النار

العتق من النار هو تخليص الإنسان من النار، ومن يكتب ضمن العُتقاء، فلن يدخل النار أبداً برحمة الله وفضله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله تعالى عتقاء في كل يوم وليلة - يعني في رمضان - لكل عبدٍ منهم دعوة مستجابة"؛ صححه الألباني في صحيح الجامع، وروي في الحديث بإسناد فيه ضَعف: "أول شهر رمضان رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عِتق من النار".

فمن يعتق في هذا الشهر، فكأنما أُعتق من مولى الكافرين؛ كما قال عز وجل: "فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير" الحديد: 15.

فحري بنا أن نجتهدَ في هذا الشهر الكريم في الدعاء إلى الله عز وجل والتضرع إليه أن يعتق رقابنا من النار، خصوصاً في مواطن إجابة الدعاء.

عاشراً: زكاة الفطر

زكاة الفطر تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان، والحكمة من زكاة الفطر كما هي منصوصة في الحديث هي تطهير الصائم من اللغو والرفث؛ فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات"؛ رواه أبو داود، وحسنه النووي.

فمن تمام الخير والنور أن تودع هذا الشهر بأداء هذه الزكاة الواجبة عليك وعلى كل مَن تعول كالزوجة والأولاد، وبذلك تكون أعمالك أجدر بالقبول عند الله عز وجل.

هذه هي أبرز الأنوار الرمضانية التي ينبغي عليك أيها المسلم أن تغتنمَها ولا تُفوِّتها، فاجعلها نصب عينيك في كل رمضان في كل عام، عسى أن يكرمنا المولى عز وجل بوافر الأجر والحظ والنصيب.

وصلى الله وسلم على سيدنا وحبيبنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.