انطلقت شرارة الاحتجاجات التي حولت شوارع مدن أمريكية إلى ما يشبه ساحات الحرب بعد أن تسببت شكوى من 20 دولار مزيفة قدمها الضحية جورج فلويد دون علم منه على الأرجح، لمتجر في حيه ويملكه أشخاص عرب من أصل فلسطيني، وقام وقتها موظف باتباع الاجراءات المطلوبة وهي تبليغ الشرطة التي حضرت بدورية ووقعت جريمة قتل الضحية،

وتتواصل الاحتجاجات العنيفة في عدة مدن أمريكية على مقتل الرجل الأعزل في منيابوليس في الاضطرابات اشتعلت بسرعة وفرضت السلطات حظر التجول في عدد من المدن الأمريكية الكبرى يوم السبت بعدما نزل المحتجون إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم لوفاة رجل أسود ظهر في مقطع فيديو وهو يجد صعوبة في التنفس بينما يجثو رجل شرطة أبيض على رقبته.

وحريا بنا أن نسأءل هل يعقل أن تؤدي شكوى عن ورقة 20 دولار مزورة إلى قتل رجل بطريقة وحشية تسببت بسلسلة أحداث مأساوية دمرت فيها أبنية واعتقل الآلاف ولقي أكثر من شخص حتفه عدا عن الجرحى والدمار الذي لم يتوقف حتى اللحظة؟

نعم حققت المظاهرات انجازات عديدة أولها توجيه أول اتهام بتاريخ مدينة منيابوليس ضد ضابط أبيض لقتله رجل أسود، فهذا لم يحدث من قبل ! ويواجه الشرطي السابق ديريك شوفين عقوبة سجن تصل إلى 25 عاما عن جريمة القتل العمد من الدرجة الثالثة.



الواقع هو أن العشرين دولار هي مجرد شرارة أشعلت نيرانا تحت الرماد، فانتهاكات الشرطة الأمريكية وصلت لمستويات لا يمكن تصورها. ومثلا، قامت الشرطة بقتل امرأة وهي نائمة بإطلاق النار عليها الشهر الماضي، وسبق ذلك أحداث كثيرة تلفت لمن ينظر إلى الصورة الكبيرة أن نظام الشرطة القائم الذي لا يخضع لأي مساؤلة هو السبب لأنه يكرس العنف منهجا للتعامل مع الأمريكيين من أصول أفريقية.

فعناصر الشرطة في الولايات المتحدة لا يخضعون لأي مساؤلة ويتمتعون بحصانة خاصة ولا يمكن مقاضاتهم إلا بصعوبة كبيرة وإن تمت مقاضاتهم فهناك فرص ضئيلة لإدانتهم.

وهذا الانفلات لدى الشرطة له أبعاد معقدة، فقد اعترف المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي، جيمس كومي السنة الماضية أنه لا يوجد إحصائيات لحوادث القتل التي ترتكبها الشرطة. وهناك أطرافا غير رسمية تقوم بإحصائيات خاصة!

وتشير إحدى هذه الإحصائيات إلى أنه من أصل آلاف عمليات القتل التي ارتكبتها الشرطة منذ العام 2005 لم تتم مقاضاة أكثر من 77 ضابط شرطة فيما لم يدان من هؤلاء أكثر من 23 شرطيا فقط!

فهناك نقابات الشرطة ذات النفوذ الهائل والتي تمنع أي مقاضاة أو محاسبة لأي شرطة بطرق عدة، أولها التبرع للنائب العام في المدينة للمساهمة بحملته الانتخابية وما إلى ذلك فضلا عن منع الاحتفاظ بسجلات العقوبات المسلكية التي تسجل ضد عناصر الشرطة وجعل انتهاكاتهم سرية أو التشجيع على إزالتها وإخفاءها. كما أن التحقيق في سوء تصرف أي شرطي يتم من قبل زملاءه حيث هناك عرف يمنع الطعن بالزملاء، أي ان التحقيق لن يكون محايدا!

كما تنتشر ظاهرة غريبة لدى عناصر الشرطة وتسمى الشرطي الغجري، كناية عن سرعة تنقله بوتيرة كبيرة بين أقسام الشرطة المختلفة في أنحاء الولايات المتحدة حين يرتكب انتهاكا جسيما، ومثلا، تم ضبط عنصر شرطة تحت تأثير المخدرات، ومرة أخرى تحت تأثير الكحول، ولدى الطلب منه الخضوع لفحص لتعاطي المواد الممنوع، تقدم باستقالته لتفادي ذلك وقام بالعمل في قسم شرطة آخر، ويذكر أن أحد عناصر الشرطة قام بتبديل عمله 6 مرات، حيث كان يستقيل لتفادي أي تثبيت لسوء سلوكياته من تعاطي المخدارات أو المسكرات أو ارتكاب انتهاكات كبيرة أو إصابة أشخاص أبرياء بإطلاق النار من مسدسه.

هناك تدريب عناصر الشرطة الأمريكية أيضا، وهو الأفضل في العالم في موارده، لكنه يركز على جوانب مرعبة فيه، وهي التركيز بنسبة تزيد عن 70% على العنف و استخدام السلاح كإجراء وتصرف اعتيادي بما فيه القتل، وإهمال جوانب تسوية النزاعات أو حل الصراعات والمشاكل لدى حدوثها وهي لا تنال سوى جزءا يسيرا جدا من التدريب.

ولدى التدريب على السلاح هناك عقلية ينطلق منها وهي اعتبار المدنيين مصدر تهديد دائم، حيث الأولوية لسرعة المبادرة بإشهار السلاح وقتل أي شخص يعتبر مصدر تهديد قبل أن يظهر منه أي بادرة خطرة، أي استباق حدوث موقف خطر!

ووصل التدهور في سوء تصرفات الشرطة إلى التسلط على الأقليات وخاصة السمر بحيث أصبحت بعض المدارس تدرب الأطفال الصغار على كيفية التعامل مع الشرطة لتفادي الوقوع ضحية إطلاق نار من دورية أو عنصر شرطة.

هي ليست قضية سببها عشرين دولار مزورة، بل نظام شرطة مفلوت الزمام، بل تناقضات مرعبة في بلد يفلت فيه من يحتالون بمئات المللايين، مثل قضية جيفري ابشتين الذي زور شهادةجامعة واستولى على ملايين الدولارات من المستثمرين ثم تورط بتجارة رقيق وأفلت أكثر من مرة عند ضبطه بأشنع الجرائم و أفلت آخر مرة بصفقة، ليعيش في جزيرة خاصة ويستمتع بطائراته الخاصة إلى أن وقع مرة أخيرة واعتقل و "انتحر" بالسجن بظروف تثير الشكوك والشبهات، لكن بعض الفئات الضعيفة يمكن أن تدفع حياتها بأبخس الأثمان وأتفه الأسباب.