أيمن شكل

اتخذها مهنة منذ قدومه البحرين قبل 4 عقود رغم من أنه كان في ريعان شبابه ولا يتحمل المسؤولية، لكنه قرر أن يغسل الموتى على يد معلمه الشيخ عبدالسلام الباكستاني الذي كان يغسل الموتى في مقبرة البسيتين.



"مصباح" مغسل الموتى، الذي لمست أنامله جميع الجثامين الموجود بمقبرة الحد تقريباً منذ أن كانت صغيرة يحكي قصته مع المهنة التي لا يفكر فيها أحد ويفتح بوابة ذكرياته في بداية المهنة.. كيف دخلها وأدخل زوجته فيها، وفق خطة رسمها مع الشيخ عبدالمنعم آل محمود حتى لا تطلب الطلاق، وكيف تخرج من خلف المقبرة طبيبتان هما ابنتاه.

ويؤكد أنه عندما قدم إلى البحرين في العام 1982 بقي سنة يبحث عن عمل، وحينها كان يصلي الفروض الخمسة في مسجد قريب من السكن ليتعرف لاحقاً إلى الشيخ عبدالمنعم الذي أدخله غرفة صغيرة لم يكن بها أثاث وطلب منه الانتظار لليوم الثاني حتى يتم إكمال فرشها ومن ثم بدأ بتعلم المهنة دون خوف.

كفيلي طلب 200 دينار لتحويلي للأوقاف

واصطحبني الشيخ عبدالمنعم إلى غرفة صغيرة لم يكن بها أي أثاث لكنه طلب مني الانتظار لليوم الثاني حتى يتم إكمال فرشها، وبالفعل بدأت الأذان من مسجد السيدة عائشة، وكان عمري 21 عاماً، ولم أجد إنساناً كريماً وعطوفاً مثله حيث كان كان يرسل لي الطعام من منزله مع ابنه الشيخ وليد، وكنت أحياناً أنام ويفوتني آذان الفجر، فيأتي هو ويؤذن ويقيم الصلاة وبعدها يوقظني.. لكنها كانت البدايات وكنت لا أزال شاباً صغيراً لم يتحمل المسؤولية.

وبعد أيام طلب مني الشيخ عبدالمنعم جلب جواز سفري لنقل الكفالة على الأوقاف، إلا أن كفيلي رفض الموافقة إلا بعد دفع 200 دينار، ولم أكن أملك هذا المبلغ الكبير جداً في الثمانينات، فما كان من الشيخ عبدالمنعم إلا أن قام بدفع المبلغ، ولم يتردد في ذلك حتى أنه رفض مناقشة كفيلي وأعطاني المال لكي أنهي المشكلة دون تدخله.

وكان معاشي 60 ديناراً لوظيفة مؤذن، في هذا الوقت بالإضافة إلى 20 ديناراً كانت مقابل عمل منظف حيث لم يكن هناك أحد سواي في المسجد، واللافت في هذا الوقت أن مبلغ 1000 تاكا تساوي 18 ديناراً، كنت أرسلها إلى زوجتي في بنغلاديش، والتي تبلغ الآن 4.5 دينار فقط.

وحاولت أكثر من شهر أن أسدد ما دفعه لي الشيخ عبدالمنعم، إلا أنه كان يرفض استقطاع أي شيء من مرتبي، وبعد مرور فترة عرضت على الشيخ أن أجلب زوجتي، فقال لي إنه سيقوم بترتيب ذلك ولكن في الوقت المناسب.

وفي تلك الفترة، كانت مقبرة الحد صغيرة جداً وليس بها مرفق مغسلة للموتى، حيث كان المتعارف عليه غسل الموتى في بيوتهم، ولم تكن لي أية علاقة بهذه المهنة سوى أن والدي كان يمارسها في بنغلاديش، وكانت عملية التغسيل يقوم بها شخص واحد فقط بالمنطقة وهو الشيخ إبراهيم والد الشيخ عبدالرحمن عبدالسلام، بينما النساء كانت تغسلهن سيدات.

وأبلغت الشيخ عبدالمنعم أن والدي كان يغسل الموتى، وبإمكاني القيام بهذه المهمة فسألني عن زوجتي: هل هي أيضاً تغسل الموتى من السيدات؟ فأبلغته بأنها لا تعرف، فقال لي إذا كنت ستعمل في هذه الوظيفة فيمكن استقدام زوجتك بشرط أن تساعدك أيضاً في تغسيل الموتى، وهي المهنة التي لم تعلم زوجتي أنني أعمل فيها أصلاً، وتلك كانت مفاجأة أوقعتني في حيرة لكن الشيخ عبدالمنعم وعدني بوضع خطة لإقناع زوجتي بممارسة هذه المهنة، وقال إنها إذا علمت مباشرة فسوف تطلب الطلاق.

غسلت معلمي

الباكستاني وهو حي

ويضيف: «بدأت أتعلم مهنة غسل الموتى من الشيخ عبدالسلام الباكستاني الذي كان يغسل الموتى في مقبرة البسيتين حيث كنت أذهب إليه كل يوم بعد الفجر وأعود قبل آذان الظهر إلى الحد، وأوكل لي مهمة خياطة الأكفان والتي تتطلب قرابة 20 متراً يتم قصها إلى 5 قطع «قميص و 2 لفافة وإزارين»، وكنت أقوم بتحضير ما بين خمسة إلى ستة أكفان في اليوم، وأراقب عملية غسل الموتى دون المشاركة فيها حتى زال عني الخوف الذي شعرت به في البداية.

ويقول: «لكي أبدأ العمل في مهنة تغسيل الموتى كان لا بد من الحصول على شهادة من الشيخ عبدالسلام، والذي اشترط أن أقوم بغسل متوفى بمفردي، فكنت أذهب يومياً إلى مقبرة البسيتين لكي أحصل على تلك الشهادة بعد تغسيل أول متوفى، لكن لم تأت أي جنازة لأيام، وبقيت أنتظر وصول جنازة بلهفة، وكأن الموت يعاندني ولا يريدني أن أحصل على الشهادة».

وهنا اتخذ الشيخ عبدالسلام قراراً كان الأغرب في حياتي.. فقد قرر أن يقوم بدور الجثمان وينام على المغسلة وأقوم أنا بتغسيله ولكن دون استخدام الماء، وفي البداية اعترضت على الفكرة، لكنه شجعني وقال إنه لا يخاف وسيعطيني الشهادة بمجرد إنهاء الغسل الافتراضي بنجاح، فقمت باتباع الإجراءات التي تعلمتها منه على جسده «الله يرحمه» وكفنته بالكفن ولكن دون إغلاقه بالكامل. واستلمت الشهادة وعدت إلى الحد لأبدأ عملي الجديد في مسجد علي كانو، وإلى أن سافرت عائداً لزوجتي بعد غياب 3 سنوات، ومكثت معها شهرين، لأرجع إلى البحرين.

خطة إقناع زوجتي

بالعمل في تغسيل الموتى

وبالفعل، حضرت زوجتي للبحرين ومعها طفلتانا وكانت في منتهى السعادة لأنها ستكون بجواري ويلتئم شمل عائلتنا، لكنها لم تكن تعرف ماذا يخطط لها في الخفاء.

وفي البداية كانت زوجتي تستطيع مشاهدة ما يجري في المسجد من خلال فتحة صغيرة في باب الغرفة الملحقة، ولاحظت في هذا الوقت دخول الجثامين والصلاة عليها ودفنها، فأخبرتها بأنني أساعد في تغسيل الموتى وآخذ على هذا العمل 30 ديناراً إضافية، فسألتني: ألا تشعر بالخوف؟.. فقلت لها: لماذا أخاف فجميعنا سنموت يوماً ما، كما أن هذا العمل سيسهم في رفع دخلنا الشهري.. فتقبلت الوضع بارتياب.

وبدأت الخطة لإدخال زوجتي هذه المهنة، حيث أخبرتها في أحد الأيام بأننا سنذهب لزيارة صديق باكستاني «مغسل الموتى في مقبرة المحرق»، ففرحت لأنها لم تتعرف على أحد منذ أن حضرت للبحرين، وهناك اكتشفت أن زوجة صديقي لا تتحدث لغة الأوردو، لكنها تعاملت معها بترحاب وود، وكنت اصطحبها معي كل يوم في الصباح إلى منزل المغسل الباكستاني، حيث اكتشفت في أحد الأيام أن صديقتها الباكستانية تغسل الموتى.

ورفضت زوجتي الذهاب إلى بيت الباكستاني، لكني أقنعتها بأن تلك السيدة تعمل في مهنة عظيمة وترضي ربها وتأخذ على ذلك أجراً شهرياً وثوابها عظيم عند الله، فتقبلت على مضض وإلى أن صار الأمر عادياً بالنسبة لها، قررت مصارحتها فقلت لها إننا نحتاج لدخل إضافي لأن ابنتينا ستدخلان المدرسة العام المقبل، ولذلك عليها أن تتعلم مهنة تغسيل الموتى لمواجهة تكاليف المدرسة.. ومع أول جنازة عادت للبيت ترتعش، لكنها اعتادت على الأمر بعد 6 أشهر من التدريب اليومي في البسيتين.

جنازة لم أنسها

كان من المعتاد أن أقوم بتغسيل أموات كثر بأشكال مختلفة، وأصبح الأمر بالنسبة إلي عادياً، لكن ما زلت أتذكر يوم أن جلبوا جثة في الفجر لرجل توفي منذ ثلاثة أيام في منزله وتعفنت جثته، وقام أهله بجلب الجثة قبل الفجر وتركوه وغادروا، فبقيت وحيداً مع جثة رجل متحللة لا أعرف كيف أغسلها لأن الجلد متحلل، والرائحة نفاذة لا تطاق والكثير من الذباب يحوم حولها، فاتصلت بصديق هندي جاء لمعاونتي، وعندما شكوت الحال للشيخ عبدالمنعم، قال: «في مثل هذه الحالة عليك فقط برش المياه على الجثة وتكفينها»، لكن ظلت الرائحة النفاذة في أنفي حتى اليوم لا أستطيع التخلص منها.

صدمة حسن غلوم

رأيت في أهل منطقة الحد الطيبة وحب الناس وفعل الخيرات، وكان هناك رجل يدعى حسن غلوم تقاعد من عمله في إدارة المرور، وجاءني وعرض أن يساعدني في تغسيل الموتى تطوعاً ولأخذ الثواب، وفي تلك الأيام لم يكن هناك هواتف نقالة، فقط «بيجر»، واتفقنا على أن أرسل له رسالة «بيجر» تحتوي على رقم (0) ليعرف أن هناك جنازة فيأتي لمساعدتي، وكان من أطيب الناس الذين عرفتهم في حياتي.

وفي فجر أحد الأيام حضرت جنازة ففتحت باب المغسلة وجاءني شخص يدعى سمير ليسألني: «هل هناك أحد يساعدك في الغسل؟، فأكدت له أنني سأقوم بالاتصال بحسن غلوم وسيأتي على الفور، ليصدمني بأن الجثمان الذي أمامي هو لحسن نفسه، وعندما علمت ذلك فقدت القدرة على الكلام وأحسست بأن قلبي توقف عن العمل.

حسن غلوم كان بالنسبة لي أكثر من صديق وأخ، بل إن أهل الحد جميعهم كانوا يكنون له كل الحب والاحترام، فلم يكن يترك أحداً يحتاج لمساعدة دون أن يقدمها له، ولقد تأثرت كثيراً بموته حتى أنني لم أستطع تغسيله، ومكثت 3 أشهر غير مصدق أنه مات، حتى أن أي سيارة تأتي إلى المسجد أظنها سيارة حسن.

المقبرة التي خرَّجت طبيبتان

وكبرت ابنتاي وتخرجتا من المدرسة الهندية وعادتا إلى بنغلاديش ودرستا الطب هناك، وهما الآن طبيبتان وإحداهما متزوجة ولديها طفل، وأكاد أرى حياتنا في هذا الملحق وخلفه مقبرة الأموات، تمر فيه السنون لتتخرج من خلف هذه المقبرة هاتان الطبيبتان.

39 عاماً قضيتها بين أهل الحد أحببتهم وأحبوني حتى أصبحت الحد والبحرين هي وطني الأول، فقد حضرت إليها شاباً في الحادية والعشرين، وقضيت فيها 39 عاماً من عمري، أي أكثر مما قضيته في بنغلاديش، وأصبحت اليوم معاوناً للشيخ عبدالناصر عبدالله إمام مسجد علي كانو، حيث أقوم بشرح مضمون خطبة الجمعة للجالية البنغالية التي لا تعرف العربية، بعد الصلاة.

جريمة مؤذن أثرت

على الجالية البنغالية

واليوم أواجه مشكلة إنهاء تعاقدي مع الأوقاف حيث تقرر عدم التجديد لأي مؤذن بنغالي بعد حادثة القتل البشعة التي فعلها هذا المجرم بالمحرق، وكان لها أثر سلبي على كافة الجالية البنغالية، حيث أصبحنا جميعاً متهمين ومشاركين معه في هذا الجرم دون ذنب.

لكن أهل الحد وقفوا إلى جواري وقدموا عريضة إلى الأوقاف تطالب بإبقائي في المسجد، وجاءت جائحة كورونا (كوفيد 19) لتجمد الأوضاع ويبقى المستقبل غير معلوم، لكني أثق في الله وأعتمد على حب الناس لي في المنطقة ولله الأمر من قبل ومن بعد.

اتخذها مهنة منذ قدومه إلى البحرين قبل 4 عقود على الرغم من أنه كان في ريعان شبابه ولا يتحمل المسؤولية، لكنه قرر أن يتعلم مهنة غسل الموتى من الشيخ عبدالسلام الباكستاني الذي كان يغسل الموتى في مقبرة البسيتين.

«مصباح» مغسل الموتى، الذي لمست أنامله كل الجثامين الموجود بمقبرة الحد تقريباً، يحكي قصته مع المهنة التي لا يفكر فيها أحد ويفتح بوابة ذكرياته في بداية المهنة.. كيف دخلها وأدخل زوجته فيها، وفق خطة رسمها مع الشيخ عبدالمنعم آل محمود حتى لا تطلب الطلاق، وكيف تخرج من خلف المقبرة طبيبتان هما ابنتاه.

يقول مصباح «حضرت إلى البحرين عام 1982، حيث كان شقيقي يعمل في شركة مقاولات ويسكن بالقرب من السوق المركزي في المنامة، وجلب لي تأشيرة، وبقيت سنة أبحث عن عمل، وحينها كنت أصلي الفروض الخمسة في مسجد قريب من السكن، وخلال تلك الفترة سافر المؤذن البنغالي في إجازة، فقررت أن أطلب من الشيخ أحمد المطلق إمام المسجد آنذاك العمل في وظيفة مؤذن.

وبالفعل قابلته بعد صلاة الفجر واختبرني في قراءة القرآن والأذان فأعجبه صوتي، وأعطاني بطاقته وطلب مني الحضور إلى مبنى وزارة العدل والشؤون الإسلامية، حيث تم إجراء امتحان لي من شيوخ بحرينيين كان أبرزهم الشيخ أحمد آل محمود شقيق د. الشيخ عبداللطيف، والذي قرر أن يأخذني في نفس اليوم إلى مسجد السيدة عائشة في الحد، وهناك كان الإمام شقيقه الشيخ عبدالمنعم آل محمود والد الشيخ وليد آل محمود والذي كان وقتها طفلاً صغيراً.