قد لا يحتار المرء كثيراً عندما يرى أناساً يحدقون في تصاميم بعض الدور وأقواس الحوانيت ودعامات المباني في بعض الأمكنة ذات القيمة التاريخية والتراثية الباقية، ويحرصون على زيارة مواقع ومدن بعينها والسير في شوارعها والمرور عبر أزقتها وميادينها.

يقول أهل السفر والترحال؛ إنه لا يمكن أن تكتمل زيارتك لمعالم مكان ما دون الاطلاع على بعض هذه المواقع التي ربما تكون مبعث إلهام، ومصدراً لا ينضب لتجديد الهمم والنشاط، فضلاً عن الذاكرة التي تربط الفرح والمتعة بالمدن التي نتجول فيها، والبشر الذين يلتفون حولنا.

لا تختلف البحرين كثيراً عن أماكن تعد مقصداً للسفر والتجوال، فإضافة إلى كونها بوتقة تاريخية انصهرت فيها ثقافات مختلفة، فإنها تحمل إرثاً عريقاً من الآثار الخالدة ومواقع عديدة تزخر بملامح من عبق التاريخ وأخرى تحمل روح الحاضر، تتميز بجمال تصاميمها وشكل هندستها.



محبو التراث التاريخي واستكشاف الحضارات القديمة التي ميزت منطقة الخليج ـتحديداًـ سيجدون ضالتهم في عدة مواقع لا توجد سوى في المملكة، ومنها "قلعة البحرين"؛ المدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ عام 2005، وقد ظلت لمدة 4 آلاف سنة تطل على مياه الخليج الدافئة لتحكي قصتها كعاصمة ومرفأ لحضارة "دلمون" القديمة.

وإذا كانت هذه القلعة تمثل شاهداً على تنوع الحقب التاريخية التي مرت بمملكة البحرين فإنها عملت بجانب غيرها من القلاع والحصون الأخرى في "عراد" و"الرفاع" و"بوماهر" على تأكيد موقع المملكة كنقطة للجذب الحضاري والتبادل التجاري، فضلاً عن صد الغزاة والطامعين.

تشير كتابات متخصصة إلى أن القلاع البحرينية ليست وحدها من ملامح المشهد التاريخي في البلاد، فهناك تلال المقابر الأثرية في عالي ومستوطنة سار التي تعبر عن المدينة الدلمونية القديمة وأطلال معبد باربار ومسجد الخميس، وكلها معين لا ينضب لدارسي التطور الإنساني والعمراني في المنطقة، كما أنها ذات قيمة فنية كبيرة.

يستطيع المدقق في المشهد أن يخلص إلى هذا التمازج الحضاري الذي عاش أهل البحرين وسطه على مدار التاريخ وحقبه، على قوة الانتماء للأرض والهوية المتميزة، بما ينعكس في حجم وتنوع القطع الأثرية المعثور عليها، التي تعرضها متاحف المملكة كالأختام الدلمونية والأواني الفخارية والحلي البرونزية وغيرها، فضلا عن النقوش والزخارف والتلوينات التي تحملها حوائط القلاع والحصون القديمة، وبِناها وتصميماتها المعمارية والهندسية التي اصطبغت، هي الأخرى، بشيء مميز من الحضارات التي مرت بالمملكة وتراكمت فنونها عليها.

ويذهب المهتمون هنا إلى مرحلة أخرى من مراحل التكوين التاريخي لذاكرة الأمكنة في المملكة، أو ما يُعرف حاليا بالبيوت التراثية، خاصة في المحرق القديمة، التي تكمل ملامح المشهد، وتشكل جسراً يربط بين القديم والحديث، والتي حافظت عليها البحرين، وقامت الجهات المعنية برعايتها، وذلك في إشارة إلى الأدوار التي قامت بها هذه البيوت خلال العقود الأخيرة، وما زالت تقوم بها إلى الآن في حماية الهوية التاريخية للبلاد، واستضافة الفعاليات والبرامج الثقافية.

ولا يمكن لذاكرة المكان في البحرين أن تغفل عن أبرز معالمها الثقافية والمكانية، وهي المتاحف العامة والمتخصصة، التي شكلت بجانب غيرها تجسيدا حيا لحجم الاهتمام بتوثيق تاريخ تطور البلاد وتراثها الحي الباقي.

وتعد البحرين من أوائل الدول في منطقة الخليج التي اهتمت ببناء المتاحف ورعايتها، إذ يعود ـمثلاًـ متحف "الغوص واللؤلؤ" إلى العام 1937، و"متحف البحرين الوطني" الذي يعد مبناه ضمن أجمل المتاحف في تصميمه ومقتنياته وتم افتتاحه عام 1988 ليستكمل مسيرة ثرية من الاهتمام بالمتاحف في مملكة البحرين والمميز أيضا في هذا المتحف اطلالته البحرية على محافظة المحرق.

وكذلك متحف "قلعة البحرين" و"المتحف العسكري" الكائن بقلعة "الرفاع" التي بنيت في عهد الشيخ سلمان بن أحمد الفاتح، ومتحف "بيت القرآن"، والتي رغم حداثة نشأتها جميعا، لكنها تضم كغيرها العديد من المقتنيات التي تهم كل باحث أو دارس أو سائح أو مهتم بتاريخ تطور البحرين الحضاري.

ومن ذاكرة المكان أيضا "باب البحرين" بقلب العاصمة المنامة، حيث كان موقع الميناء البحري (الفرضة) التي كانت عاملاً من عوامل حيوية المنامة.

يحمل باب البحرين ساعة ميكانيكية مميزة في واجهته تكاد تكون دلالة على حكايات التاريخ والذكريات التي شهدتها ممرات وأزقة المنامة، وأبواب (الدكاكين) الخشبية المزخرفة التي تصطف على جانبي الطريق لتقود إلى السوق القديم، والأسقف الخشبية التي تظلل الممرات بما تحويه من روح العراقة التي تلتقي بروح العصر.

وكذلك محافظة المحرق لا زالت تزدان بأسواقها المميزة ذات الطابع التقليدي ومنها سوق القيصرية، كما يبدأ هنا طريق اللؤلؤ وهو ثاني موقع بحريني يدرج على قائمة التراث العالمي، في توثيق لعراقة المحرق بسواحلها وأسواقها وحالاتها.

وإذا كان المكان يروي جانباً من سيرة الأرض ويقدم لنا العبر من التاريخ، فإن صورة الهوية الثقافية والحياة الإنسانية لا تكتمل إلا بشخوص البشر بابتساماتهم الودودة ودفء أرواحهم التي تركت ذاكرة المكان بصماتها على جوهرها فحملت طابع البحرين الفريد وتألقها الحضاري لتخلد سيرة التعايش والسلام في المملكة.