بما أن اليوم الخميس ومن المفروض أن يكون ونيساً، وبما أن الطيران مازال مقيداً بسبب فيروس كورونا فلا بأس من استعادة بعض الذكريات الغريبة عن تجاربي في السفر ليضاف إلى المقال السابق «من سلم الطائرة» الذي كتبت فيه جزءاً يسيراً من تلك التجارب الغريبة.

وعدتكم أن أتحدث عن رحلتي لموسكو على «ايرفلوت» وهي الطيران الروسي الرسمي حين دشن أول رحلاته في البحرين في نهاية التسعينات، وهذه كانت المرة الأولى التي أرى فيها هذا البلد الجميل.

الفترة كانت في عهد يلتسين أي أول سنة بعد تفكك وسقوط الاتحاد السوفيتي، أي أننا سنرى روسيا في المرحلة الانتقالية ما بين عصرين، كانت تجربة فريدة من نوعها بمعنى الكلمة بدءاً من لحظة دخولنا الطائرة إلى حين عودتنا.

أول ما وطأت أقدامنا أنا وزوجي الطائرة صعقت وانعقد لساني وجحظت عيناي ولكن الوقت قد فات على التراجع فقد أغلق باب الطائرة وربطت الأحزمة ونحن من هول الصدمة الأولى لم نفق إلا والطائرة تتحرك على المدرج استعداداً للإقلاع.

المفاجأة أن هناك عاموداً من حديد صدأ يتوسط ممر الركاب (بييم) وضع لتقوية السقف حتى لا ينبعج من الضغط، وعلامات اللحام بادية عليه أي أنه ليس من تصميم الطائرة الأصلي.. ما علينا.. الفاس وقعت في الرأس والطائرة أقلعت.

كل شئ في هذا الطيران كان غريباً، طاولات الطعام وأبواب الصناديق العلوية تغلق بحديد معقوف (الفركال) الشاي يقدم لك مرة واحدة بارداً في إبريق معدني كبير ملون والسكر يأتيك وبه عقد وبقايا مخلفات.. ما علينا!

المهم وصلنا ليلاً إلى موسكو ولم يكن فيها إلا فندق واحد لاستقبال السواح، فلم يكن الاتحاد السوفيتي دولة تعترف بالسياحة، وأعتقد أنه كان وزارة حربية لأن العاملين فيه من بدا من وجوههم مروراً بمعاملاتهم كانت حربية، فلا تجرأ أن تطلب منهم طلباً، كنا نخاف أن نسأل لأن وجههم عبوس قمطريرا وكانوا ضخام الجثة وغير ودودين فهم موظفون وممنوع عليهم أخذ البخشيش، كل منا كان يطلب من الآخر أن يكون فدائياً ويسأل عن الملح أو الفلفل.. ما علينا!

الغرفة صغيرة جداً جداً والحمام أصغروقد اصطحبنا معنا ملاءات السرير الخاصة والفوط الخاصة كما نصحنا به وكيل السفريات وفعلاً كانت نصيحة في محلها لأن الموجود غير صالح للاستهلاك الآدمي.. ما علينا.

الفندق كان مكتظاً بالأخوة السوريين والعراقيين حجزوا أكثر من غرفة وأحياناً تحجز المجموعة طابقاً كاملاً لا للسياحة إنما لتخزين الأجهزة الإلكترونية وبيعها، فقد كانت تجارة رابحة في تلك المرحلة قام بها الأخوة العرب الأشاوس بين الخليج وموسكو... ما علينا!

موسكو من أجمل مدن العالم طبيعة ومناخاً وعمراناً وأناساً رغم جفافهم العاطفي ورغم المرحلة الصعبة والحرجة جداً التي كانوا فيها في ذلك الوقت.

كل ما بني في عهد الأباطرة مازال حياً جميلاً راقياً حين ذاك، وكل ما بني في عهد الشيوعية كان مأساة بمعنى الكلمة، حديداً مشوهاً وعشوائياً وخليطاً كعهدهم.

الساحة الحمراء الشهيرة كنيسةالقديس باسيلي، محطات المترو كان تحفة معمارية ومتحفاً بحد ذاتها، جامعة موسكو، مسرح البولشوي، حتى السيرك الروسي كان أعجوبة.

المفارقة أن روسيا السياحية مازالت إلى الآن تستفيد من بقايا الأباطرة الذين أسقطت حكمهم فمخلفاتهم هي أشهر معالم روسيا السياحية إلى الآن.

رأينا تاريخ الشيوعية يباع على الأرصفة في تلك الرحلة، نياشين ومعاطف وأسلحة ومناظير وأحذية حيث تقف زوجات الجنرالات لبيعها وما من مشترٍ لتترجم المعنى الصحيح لارحموا عزيز قوم ذل.

كل شيء كان وقته برخص التراب حتى التاريخ! الفرو الطبيعي كان رخيصاً، الكفيار كان كالمربى موجود على الطاولات، دخول المسرح أو حضور العروض الفنية كان بدينار أو اثنين بالكثير، إنما كانت عروضاً لم نرَ مثل جمالها ودقتها، عزفاً ورقصاً وتنظيماً وانضباطاً.

لم تكن هناك محلات للسوبر ماركت كانت هناك بقالات وبيع الخبز بالكيلو والزبدة يجلبها لك البائع فلا وجود لعربات التسوق.

البلاستيك لم يكن موجوداً كل الطعام موجود في زجاجات كبيرة يغرف لك منه وتحاسب على وزنه، بأكياس ورقية وتلف.

وفرت لنا وكالة السفر مرشداً سياحياً شاباً عراقياً في منتصف الثلاثينات، سألناه ماذا تفعل في موسكو قال حضر لها للدراسة وبقي فيها هارباً من حكم صدام حسين، الغريبة أن مستوى ذكائه كان محدوداً جداً فلم نستفد منه بمعلومة واحدة، لذلك استغربنا أنه قال إن الكي جي بي دربته ليكون جاسوساً وأرسلته إلى إيران عبر مراكب الصيد باعتباره لاجئاً عراقياً وفي الميناء كشفه الإيرانيون قبل أن يدخل البلد وسجن لثلاث سنوات وأطلق سراحه وعاد لموسكو وضاع جهد الكي جي بي.. ما علينا!!

هناك الكثير من قصص تلك الرحلة الاستكشافية العجيبة رويت لكم بعضها على عجالة وأنا على ثقة بأن الأمور تغيرت كثيراً في موسكو الآن فنحن نتحدث عن ثلاثين عاماً مضت.... لا يزعل علينا إيغور كريمنوف السفير الروسي بعدين!

خميسكم ونيس بإذن الله.