وكالات

لم يكن مشهد في سلسلة أفلام خيال علميّ شهيرة، أو مجرد طرح لحلمٍ صعب التحقيق، أو أمنية لا يعلم أحد موعد تنفيذها، بل كان إعلانًا عن انطلاق ثورة علمية وطبية هائلة ينتظرها العالم، كشف تفاصيلها الملياردير الشهير إيلون ماسك، المستثمر البارز في مجال التكنولوجيا وصاحب شركة سبايس إكس والشريك المؤسس في شركة نيورالينك الناشئة المتخصصة في علوم الأعصاب.

بجانب روبوت أبيض، أعلن "ماسك" للعالم عن أول شريحة إلكترونية بحجم عملة معدنية، تم زراعتها داخل "دماغ خنزير" لتتبع إشاراته العصبية ونشاطه الكهربي بدقة عالية، وتحفيزها، فى تجربة أوليّة، بهدف علاج عدد من الأمراض التي تصيب الإنسان، وأهمها "ألزهايمر" والخرف وإصابات الحبل الشوكي، وتمهيداً لثورة في عملية نقل المعلومات من المخ البشري إلى أي جهاز إلكتروني لاسلكياً.



طفرة تكنولوجية

أوضح "ماسك" أن الجيل الجديد "V2" من شريحة "Link"، التي عملت شركته نيورالينك على تطويرها خلال السنوات الثلاث الماضية، تقدم طفرة في عالم زراعة الشرائح الإلكترونية داخل المخ البشري، حيث أنها مقارنة بالجيل الأول الذي كُشف عنه العام الماضي، فقد تخلصت تماماً من الأسلاك التي كانت تربط الشريحة بجهاز يتم تثبيته وراء الأذن.

ويأتى الجيل الجديد بتصميم مدمج يضع جميع المكونات على جزء واحد في حجم عملة معدنية يتم تثبيته بداخل جدار الجمجمة، ويتدلى منها بعض الأقطاب السلكية والتي تقوم بعملية التقاط النشاط الكهربي للمخ.

وتعتبر الأقطاب السلكية هي المكون الرئيسي الذي أضافته نيورالينك إلى سوق الشرائح الإلكترونية القابلة للزراعة في المخ، حيث زودت الشركة شريحتها بعدد غير مسبوق من الأقطاب متناهية النحافة من حيث السُمك، وذلك يعني قدرة هائلة على جمع كم ضخم من المعلومات حول النشاط الدماغي للإنسان، مما ينعكس على النطاق الواسع للتطبيقات التي ستتيحه الشريحة مستقبلاً.

قدرات فائقة

تتيح الشريحة 1024 قناة لنقل البيانات من المخ وإليه، بسرعة فائقة تُقدر بوحدة الميجابت، أي نقل بيانات بحجم 125.000 بايت في الثانية الواحدة، كما أنها مزودة ببطارية تتيح لها العمل طوال اليوم، ويمكن شحنها بتقنية الشحن التوصيلي Inductive Charging (نوع من نقل الطاقة اللاسلكية)، والذي يعتمد على جزء صغير أشبه ببنك الطاقة يتم شحنه مسبقاً، وخلال الليل يتم تثبيته أعلى الجمجمة فوق مكان الشريحة لشحنها وتزويدها بالطاقة.

في المؤتمر الصحافى الذي عقده "ماسك"، الجمعة، وأذيع عبر قناة نيورالينك على يوتيوب، طرح الحضور سؤال منطقي، لماذا نزرع شريحة داخل عقولنا؟ ليجيب بشكل مباشر، أن الشريحة مزودة بقدرتها على الاتصال لاسلكياً بهاتفك الذكي من خلال تقنية البلوتوث منخفض الطاقة BLE، وذلك مسموح في مساحة بنطاق 10 أمتار.

وأضاف أنه من الممكن توصيل الشريحة مباشرة بأي جهاز إلكتروني مثل منصات الألعاب أو فأرة الكمبيوتر أو الكمبيوتر نفسه، وحتى السيارات الذكية.

الفكرة الرئيسية التي ركز عليها ماسك هي أن قراءة أكبر قدر من البيانات المتعلقة بالنشاط الدماغي يفتح المجال الواسع أمام فهم ما تفكر فيه في الوقت اللحظي Real-time، وبالتالي ذلك يسمح بإمكانية استدعاء سيارتك "تيسلا" إلى مكانك، بمجرد التفكير في ذلك، على حد وصفه.

كما تستطيع التحكم في تغيير الموسيقى على هاتفك أو الكمبيوتر، والاحتفاظ بذكرياتك أو تحريرها، وكذلك الإضافة أو الحذف من معلوماتك حول موضوع ما، وليثير الدهشة أكثر، أكد "ماسك" أنه مستقبلاً ستتيح الشريحة إمكانية نقل ذكرياتك ومعلوماتك إلى جسد جديد أو ربما روبوت.

وأكد "ماسك" على القدرات المُذهلة التي تتيحها الشريحة الجديدة في علاج بعض الأمراض العقلية مثل الصرع، اضطراب الجهاز العصبي والزهايمر، وفي هذه المسألة تحديداً سيكون هناك ميزة تحمل اسم Save State أو الاحتفاظ بالحالة، والتي تتيح إمكانية تخزين موقف ما بكل تفاصيله والمؤثرات الحسية التي يشعر بها الجسد، ويمكن في وقت لاحق استعادة الموقف كتجربة حسية متكاملة تعيشها من جديد وكأنك بداخل الموقف بالفعل.

روبوت جرّاح

"بدون تخدير كلي، العملية ستستغرق ساعة على الأكثر، وسيقوم بها روبوت عملاق بدقة متناهية والشخص يمكنه مغادرة المستشفى في نفس اليوم"، هكذا وصف "ماسك" عملية تثبيت الشريحة والتي ستعتمد على إزالة جزء دائري من الجمجمة بقطر بوصة واحدة، بحيث تتدلى منها الأقطاب السلكية داخل المخ نفسه.

وتعاونت نيورالينك مع شركة التصميم Woke Studios الأمريكية، لوضع تصميم لروبوت الثقب، والذي يتكون من 3 أجزاء، الأول: "الرأس" ويتضمن الأدوات التي يستخدمها الروبوت وكذلك عدد من الكاميرات والمستشعرات عالية الدقة حيث تقوم بتكوين صورة دقيقة لجمجمة الشخص، ومن ثم تقوم بعملية الفتح داخلها بدقة.

ويتم الاحتفاظ بالجزء العظميّ لإعادته بعد الانتهاء، حيث يتم إدخال إبرة دقيقة ويكون التحكم بها من خلال خوارزميات حاسوبية، بحيث تقوم بتثبيت مجموعة الأقطاب السلكية، والتي يتراوح سُمك الواحد منها بين (4-6) ميكرون، أي رُبع سُمك خصلة شعر الإنسان، ثم يتم توزيعها في مناطق داخل المخ بدقة، مع الحرص على تجنب الأوعية الدموية.

أما الجزء الثاني من الروبوت فهو عبارة عن حقيبة للاستخدام لمرة واحدة، والذي يحيط برأس الشخص خلال العملية، لضمان بقاء الرأس في موضعها ثابتة، إلى جانب الحرص على تعقيم بيئة العملية.

أما الجزء الثالث فهو جسم الروبوت والذي يتكون أغلبه من قاعدة ذات وزن كبير، للتأكد من مدى ثبات الروبوت ككل خلال إجراء العملية.

التجارب السريرية

حصلت شريحة نيورالينك الجديدة "V2" على موافقة من هيئة الغذاء والدواء الأمريكية، باعتبارها جهازها ثورياً، وذلك بعد نجاح تجاربها بدقة عالية على القرود والفئران والخنازير، والتي كانت حاضرة خلال المؤتمر الصحفي.

وأثبتت أنه من الآمن تماماً على حالتها العقلية والجسدية، حيث كانت الخنازير في المؤتمر بصحة جيدة، وكان أحدها يحمل شريحة وتمت إزالتها، وآخر كان يحمل شريحتين، وهذا ما رمى إليه "ماسك" خلال حديثه حول إمكانية قيام الأشخاص مستقبلاً بإزالة الشريحة أو تغييرها بأخرى أكثر تطوراً، أو حتى يمكنهم الحصول على أكثر من شريحة داخل عقولهم، إن أرادوا ذلك.

وستبدأ نيورالينك في تجاربها على البشر في مرحلة التجارب السريرية قبل نهاية العام الجاري، والتي يتوقع "ماسك" لها أن تخرج نتائجها مبهرة.

خطورة متوقعة

ورغم أن الملياردير المثير للجدل، حذر مراراً وتكراراً من خطورة الذكاء الاصطناعي وسطوة الأنظمة الذكية على حياتنا، لكنه يرى أن نيورالينك ستكون الدرع الذي يحمي البشرية ويرفع من قدرتها على مواكبة تطور قدرات الروبوتات والاعتماد الواسع عليها في كل مجال، وبالتالي سيكون الجنس البشري أكثر قدرة على المنافسة في معركة - يراها "ماسك" قادمة لا محالة، والبقاء فيها للأذكى والأفضل والأقوى.

ولكن في نفس الوقت، نادى حقوقيون وعلماء بخطورة هذا النوع من التقنيات الحديثة، وأن قبول وضع شريحة مباشرة بداخل طيات العقل يعني أن الإنسان يضع جسده حرفياً تحت تصرف شخص ما ليتحكم فيه بتحديث برمجي يجعل عقله بالكامل رهن إشارته.