وليد شنيكات

في غرفتين متجاورتين تفصل بينهما أمتار قليلة .. تسمع هنا صرخة طفل يولد للتو تدق أبواب الحياة، وهناك تودع روح صاحبها طائعة مستسلمة، لتتشكل تثائية "الموت والحياة" .. وجدلية البقاء والرحيل في مسار رحلة العمر الطويل الشائكة بالأضداد .. الحلو والمر، السعادة أو الشقاء و الخوف والاطمئنان والبداية والنهاية.

في غرف العمليات والطوارئ وداخل المستشفيات تتشابك التفاصيل وتختلط، وتطفو حكايا تحمل في ثناياها آهات موجعة وضحكات هستيرية في مشهدية تصدمك فيها المفارقات، تماما كما هي مواكب الأفراح والأتراح، الأعراس والجنائز عندما تعلق فجأة أمام إشارة حمراء في الشارع العام، تمتزج من حولها أصوات الأغاني ونحيب الثكالى من نوافذ السيارات.



كم من أم حفظت جنينها في أحشائها من الموت وهي متوفاة، حتى يكتمل نضجه، أو غرقت في غيبوبة أبدية، فيخرج طفلها سليما وهي تنتظر أجلها، قصص كثيرة تسجل مثل هذه الحوادث المؤلمة. وهناك من دفعن حياتهن وحياة اجنتهن في الوقت نفسه.

الأمريكية أنجيلا بريماشينكو من ولاية واشنطن نقلت إلى المستشفى بعدما ثبتت إصابتها بفيروس كورونا (كوفيد19) وهي في شهرها التاسع من الحمل، ودخلت في غيبوبة، قبل نقلها إلى وحدة العناية المركزة وبعد أيام استيقظت أنجيلا لتجد طفلة رضيعة في حضنها، حيث فوجئت بأن الأطباء قاموا بتوليدها أثناء غيابها عن الوعي وخرجت أنجيلا من المستشفى بعدما تماثلت للشفاء التام.

وفي زمن "كورونا" أيضاً، كم من طبيب سارع الى انقاذ مصاب، فداناه الموت قبل أن يصل، أو حتى انتقل إليه الفيروس فوافته المنية من ساعته، .. "قل للطبيب تخطفته يد الردى.. يا شافي الأمراض من أرداك".

عادل الطيار كان طبيباً متميِّزاً في زراعة الكلى، وهو في الأصل من السودان، وتطوع لمعالجة المصابين بفيروس "كورونا" المستجد في غرفة الطوارئ في بريطانيا وفي غضون أسابيع، تُوفِّي الطبيب البالغ من العمر 64 عاماً، ليصبح أول طبيب في بريطانيا يلقى حتفه إثر إصابته بالفيروس. ويقول ابنه عثمان "والدي كان يدرك أنه في خطر، لكنه لم يكن يعتقد أن الفيروس سيكون سبباً في وفاته".

قصة الطبيبة الجزائرية الراحلة التي أدمت القلوب بعدما دفعت حياتها وحياة جنينها وكانت حامل في شهرها الثامن عندما أجبرتها إدارة المستشفى بدون إنسانية على العمل في الصفوف الأمامية في معركة كورونا، ربما تعد ثنائية نادرة في موت روحين في جسد واحد.

أيضاً في غمرة الصراع مع فيروس كورونا (كوفيد19) تتعدد القصص المأساوية لضحاياه وذويهم، اذ أن والد الطفل يان شياوون وُضع في الحجر الصحي بعد ان أثبتت التحاليل إصابته بالفيروس وخلال هذه الفترة بقي ولده يان تشنغ وحيداً في المنزل.

وكان الصبي يان يعاني منذ طفولته من تلف في الدماغ، فكان محكوماً بالبقاء طوال حياته على الكرسي المتحرك، كما كان عاجزاً عن الكلام أو تناول الطعام بمفرده.

وكان الأب قد وجه نداء على شبكة "فايبو" الاجتماعية، طلب فيه يائساً من أن يقوم أي شخص من أقاربه أو أصدقائه بالعناية بابنه العاجز، لكن يبدو صرخته اليائسة لطلب المساعدة جاءت بعد فوات الأوان، فقد كان يان تشنغ قد توفي، لكن والده نجا من الفيروس لاحقاً.

وقالت حكومة مقاطعة هونغان إن الأب كان يأمل بأن يعتني أقرباؤه أو رؤساء قريته أو الأطباء بولده العاجز. ولم يحصل الصبي على الطعام سوى مرتين فقط خلال غياب والده. وبعد وفاته قامت السلطات بعزل المسؤول المحلي للحزب الشيوعي في البلدة وعمدتها بحسب صحيفة "بيلد" الألمانية.

تتقاطع حتمية الموت والحياة في استثنائية الألم نفسه التي تبرز في كلا المناسبتين معاً، من ذاتية الاحتضار أو الفناء الدنيوي إلى الخلود المتآمل عند الإنسان الذي يكابد من أجل البقاء.