نادرة هي القيادات التاريخية في حياة الشعوب التي صنعت ملاحم وطنية وإنجازات حضارية متحدية وعورة الجغرافيا السياسة والأقاليم التي تموج بالأزمات والمصالح المعقدة وما تتطلبه من حنكة استثنائية للعبور بسفينة الوطن رغم الأمواج العاتية إلى شاطئ الأمان، هنا تتمايز القيادة التاريخية عن غيرها لتقرأ الأجيال في المستقبل عن خصائص تلك القيادة التي صنعت مجداً وبنت وطناً ورفعت شعباً يتباهى به بين الأمم.

ويأتي خليفة بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه ليكون واحداً من القادة التاريخيين الذين وهبوا أنفسهم لخدمة وطنهم وشعبهم مسلحاً بعزيمة لا تلين وإصرار متين نحو بناء يؤسس لدولة حديثة تكون في طليعة دول المنطقة أمناً وحضارة وتطوراً والتي تحتاج إلى جهود جبارة تستطيع رغم ندرة الموارد وشحة الظروف المؤهلة لفرص البناء والتنمية التحكم في تلك الظروف، وهذا ما صنعه الأمير الراحل لتكون قصة بناء البحرين الذي بدأها منذ والده المغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، ثم مع شقيقه المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، ليواصل عطاءه عضداً ومساعداً لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه.

وبالرغم من تشعبات العمل الحكومي وما يتطلبه من جهد مضنٍ في إدارة البلاد، وفيها من تراكمات الإنجازات ما يعجز أن يتناوله مقال في صحيفة، فإننا نقف وفي هذه المناسبة التي نفتقد فيها سموه إلى محطات تاريخية شكلت منعطفاً في تاريخ مملكة البحرين كان لسموه دور كبير ومحوري نحو إرساء تاريخ حديث يليق بتاريخ البحرين منذ العصور القديمة.

منذ العام 1954 اضطلع سموه بمهام إدارية وتنفيذية في العديد من المناصب وفي مختلف إدارات الدولة خاصة الخدمية منها والمالية مما أكسبه خبرة مبكرة تراكمت مع مرور السنين حتى استقلال البحرين وتعيينه رئيساً للوزراء في أغسطس 1971، ولا ننسى في هذا الإطار الجهود التي قام بها فقيد البلاد الكبير من أجل إرساء عروبة البحرين لتكون هذه البلاد الصغيرة في جغرافيتها كبيرة في المحافظة على هويتها وانتمائها القومي وما كان ذلك ليكون لولا الحنكة السياسة لقادة البلاد والتفاف شعب البحرين حول هذه الهوية بقيادة آل خليفة الكرام.

لقد بنى خليفة بن سلمان استراتيجية تنموية واضحة المعالم آخذاً في الاعتبار ندرة الموارد الطبيعية في البلاد، فكان اهتمامه خلال حقبة ما بعد الاستقلال جعل البحرين مركزاً مالياً متطوراً في المنطقة وجذب الاستثمارات المالية ورافق ذلك تطوير للموارد البشرية الوطنية حتى أصبحت البحرين من الدول المصدرة للكفاءات الوطنية في المصارف والبنوك إلى دول الخليج العربي، وما النهضة التي تشهدها المملكة في القطاع المصرفي إلا نتيجة للبنية التحتية المصرفية التي أسسها سموه لتواكب عصر العولمة المصرفية بكل ثقة واقتدار معززة بذلك موقعها الريادي في عالم المال والأعمال.

بموازاة الإنجازات في مختلف القطاعات التي حققها الراحل الكبير ومع حجم مختلف التحديات وطبيعة ترؤّس الهرم التنفيذي في البلاد إلا أن صورة خليفة بن سلمان الإنسان لم تتوار، فقد كان سموه حريصاً كل الحرص على أن يبقى قريباً إلى شعبه، يستمع إلى همومهم سواء من خلال زياراته الميدانية لمختلف وقرى البحرين ولقاءاته مع القاعدة الشعبية أو من خلال مجلسه العامر الذي يستقبل فيه نخبة المجتمع البحريني يتبادل معهم شؤون وشجون المجتمع ويبحث معهم المستجدات على الصعيد المحلي والإقليمي.

إن البحرين إذ تفقد أحد أبنائها البررة بعد أن قدم لها كل ما يمكن أن يقدمه قائد فذ إلى بلده فإن بصماته ستبقى في وجدان هذا الشعب، وإن أفضل ما يمكن أن نقدمه لخليفة بن سلمان هو المحافظة على المكتسبات الوطنية التي تحققت ومواصلة الدرب بنفس العزيمة والإصرار تحت قيادة العاهل المفدى، حفظه الله ورعاه، وحكومته الموقرة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد نائب القائد الأعلى رئيس مجلس الوزراء، حفظه الله، الذي هو خير خلف لخير سلف لقيادة السلطة التنفيذية في البلاد، وكلنا أمل أن تشهد المرحلة المقبلة إنجازات وتعاوناً وثيقاً مع السلطة التشريعية بغرفتيها النواب والشورى لكي تبقى البحرين كما هي رائدة في مختلف المجالات بين دول المنطقة.

* عضو مجلس الشورى