شهد العقد الأخير من القرن الحالي حركة عالمية واسعة تدعو إلى تنشيط الاهتمام بالموهوبين والمبدعين، وتركز على ضرورة الكشف عنهم وتشخيصهم في سن مبكرة، كما تلح على ضرورة توفير المناهج والبرامج والأنشطة التي تلبي احتياجاتهم، وتوفير المناخ والبنى المؤسسية القادرة على إدارة هذه الأنشطة لتطويرها والحفاظ على استمراريتها. وهكذا أخذت الدول ترصد الميزانيات الضخمة من أجل إجراء الدراسات والبحوث الميدانية حول الموهوبين والمبدعين، وتطوير أساليب الكشف عنهم، وتصميم البرامج المناسبة لهم لرعايتهم وتوظيف طاقاتهم الإبداعية في مجالات عدة، إيماناً منها بأن ما ينفق على هذه الفئة يعتبر نوعاً من الاستثمار يحصد المجتمع ثماره في المستقبل ويرتقي به، فلماذا هذا الاهتمام كله بالموهوبين والمبدعين؟ وماهي أهميتهم ودورهم في الحياة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا المقال.

الثروة الأهم كما تعد فئة الموهوبين والمبدعين الأساس الذي تعتمد عليه التنمية المجتمعية. فالتنمية في أي مجتمع تعتمد على العنصر البشري أكثر من اعتمادها مصادر طبيعية أخرى. فالتنمية مسؤولية أبناء المجتمع ذاته. ويشير أحد الباحثين إلى أن التخلف الذي تعاني منه دول العالم الثالث والنامية ليس بسبب ندرة الموارد الطبيعية، بل بسبب إهمالها للموارد البشرية وعدم توظيفها التوظيف المناسب لها. فعلى سبيل المثال، تمتلك دول الخليج العربي التي تعد من الدول النامية أكثر من ثلثي احتياطي النفط في العالم، فهي تمتلك ثروة طبيعية هائلة، ولكن لا يتزامن ذلك مع وجود تنمية اقتصادية وصناعية منشودة مثل التي نراها في الدول الصناعية، وذلك بسبب إهمالها للعنصر البشري.

فالنقص في الموارد البشرية المؤهلة والمتخصصة الذي تعاني منه معظم الدول الخليجية لا يمكن أن يعوض من خلال استيراد عقول من الخارج وستبقى هذه الدول في حالة استيراد مستمر. ولكن المشكلة تنحل عندما تستفيد هذه الدول من الطاقات العقلية الوطنية، بحيث تصبح هذه الكوادر العلمية مخزون الدولة الاستراتيجي الذي تعتمد عليه وهو الأمل المنشود لكي تستطيع الأمة مواكبة الأمم المتقدمة. وعلى النقيض ننظر إلى اليابان التي استطاعت بزمن قصير نفض مخلفات الحرب المدمرة عن كاهلها لتخرج دولة صناعية عملاقة على الرغم من ندرة مواردها الطبيعية، فلم يتحقق ذلك إلا من خلال الاهتمام بالكفاءات والعقول الوطنية، فتنمية أي مجتمع هي مسؤولية أبنائه بالدرجة الأولى، فاللحاق بمثل هذه الدولة لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تأهيل كوادر فنية وطنية متميزة تستطيع بزمن قصير أن تلحق بقطار هذا التقدم. وتمثل دول شرق آسيا كماليزيا واندونيسيا وسنغافورة مثالاً آخر للدول التي استطاعت أن تصل إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة وتنافسها على الرغم من شح إمكانياتها الطبيعية، فركنت إلى العنصر البشري واستفادت من طاقاته الإبداعية ووظفتها أفضل توظيف في خدمة مشاريعها التنموية. كما يلعب الأفراد الموهوبون والمبدعون دوراً بارزاً في المحافظة على أمن واستقرار المجتمع، وهذا إسحاق شامير رئيس حكومة إسرائيل الأسبق يشير إلى دور الكفاءات والعقول البشرية في استقرار المجتمع وتنميته عندما سئل: لمن سيحسم الصراع العربي ـ الإسرائيلي؟ فأجاب بكل ثقة: لإسرائيل طبعاً. والسبب لأنها تهتم بالعنصر البشري وتسخر كافة الإمكانات اللازمة لإبراز قدراتهم والوصول بها إلى أقصى طاقاتها الكامنة، وهذا ما تفتقره الدول العربية التي تعمل على تهجير أبنائها المبدعين والموهوبين لتستفيد منهم دول غير دولهم. وإذا كانت الدول المتقدمة تراهن على أبنائها الموهوبين والمبدعين في صناعة مستقبلها والحفاظ على أمنها وتقدمها، فإن دولنا الخليجية والعربية هي أحوج من غيرها في الاهتمام بالعقول البشرية ومن هنا لابد من التعرف على الأشخاص ذوي المواهب والإبداعات المتنوعة، واكتشافهم، وتصميم البرامج اللازمة لتوظيف قدراتهم وطاقاتهم التي لا تنضب من أجل تحقيق مصلحة مشتركة للفرد والمجتمع معاً. والموهوب والمبدع بحاجة إلى برامج خاصة لما يتمتع به من طاقات وقدرات يتفوق فيها على أقرانه، وعدم توفر هذه البرامج يعني خسارة جانب كبير من طاقات المجتمع، وبالتالي فالتعرف على قدرات هؤلاء وإيجاد السبل الكفيلة لتنمية قدراته من المهام الوطنية الملحة، والأفراد الموهوبون والمبدعون ليسوا حصراً على الطبقات الغنية أو على جنس من الأجناس أو عصر من العصور، فكل أمة بها من الملكات العقلية الخاصة ما يكفيها، المهم هو كيفية الاستفادة وتسخير هذه الطاقات لتكون فاعلة وقادرة على النهوض بالمجتمع. وقد بدا محلياً في الآونة الأخيرة اهتماماً متزايداً بشؤون الموهوبين والمبدعين على المستوى الحكومي والأهلي فهم استثمار المستقبل.