^ ودعنا بعد غيبوبة تجاوزت الشهر المناضل الجزائري الأصل، العربي المذهب، الإسلامي الفكر، أحمد بن بيلا، تاركاً وراءه إرثاً غنياً من الكفاح ضد الاستعمار، أولاً، ومن أجل عروبة الجزائر ثانياً، ولتكريس القيم الديمقراطية ثالثاً، وليس أخيراً. عقود من الزمان أمضاها هذا المناضل متنقلاً بين الزنزانات، عندما كان سجيناً أو رهن الإقامة الجبرية، أو في ردهات القصور، عندما كان أول رئيس منتخب للجزائر، من أجل نيل الجزائر استقلالها أولاً، وتمسك الجزائر بعمقها العربي، وخلفيتها الإسلامية ثانياً، واستمتاع شعبها بممارسة حقوقه الديمقراطية المشروعة ثالثاً. في أذهان كل واحد من أبناء جيلنا ممن عاصروا ثورة الجزائر، التي انطلقت في الخمسينات من القرن الماضي ضد الاستعمار الفرنسي البغيض، وعرفت لدينا باسم ثورة “المليون شهيد”، صورة مختلفة، لكنها راسخة. البعض منا يربطها بعملية الخطف البربرية التي قامت بها السلطات الفرنسية للطائرة التي كانت تقل بن بيلا ورفاقه الأربعة من قادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وهم محمد بوضياف، رابح بيطاط، حسين آيت أحمد، ولشرف، كي يودعوا السجن، ولا يغادروه إلا بعد انتصار الثورة وطرد الفرنسيين من الجزائر في العام 1962. البعض الآخر، ترتسم أمامه، عند ذكر بن بيلا، صورة المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، التي كانت رمزاً لصمود المرأة العربية في سجون الاحتلال، وكان فيلمها الذي تقاسمت بطولته الفنانة المصرية “ماجدة”، مع “محمود المليجي”، وعرض في إحدى دور السينما البحرينية، في الستينات من القرن الماضي، عاملاً في إلهاب مشاعر الشباب البحريني ضد الاستعمار البريطاني حينها. وهناك بيننا ممن تأثروا بحركة عدم الإنحياز، والأفكار الجيفارية، ما يزال يختزن في ذاكرته صورة بن بيلا، وهو يعانق الثائر المتمرد على القيم الثورية التقليدية، الأمريكي اللاتيني تشي غيفارا في مطار الجزائر في 15 إبريل 1964. كانت الجيفارية في الستينات ملجأ من يبحث عن حل ثوري خارج أطر الماركسية اللينينة الكلاسيكية. وشاعت نظرية “البؤرة الثورية” التي نادى بها تشي غيفارا مع رفيق دربه فيديل كاسترو، وشكلت حينها تحدياً فكرياً أمام “الماوية”، والمدرسة “الماركسية – اللينينية “ التقليدية، على حد سواء. بل ارتبط البعض منا، في تلك الفترة بين، وبعفوية عاطفية ثورية مبررة حينها، بين جيفارا الأمريكي اللاتيني، والمهدي بن بركة المغربي. أبرز ما ميز الثورة الجزائرية حينها، والتي كنا نتلقط أخبارها من محطة يتيمة هي “صوت العرب” المصرية، عبر برامجها المشهورة مثل “أكاذيب تكشفها حقائق”، إذ لم يكن العالم ، وليس العرب وحدهم، قد عرف حينها الفضائيات، ولا شبكات التواصل الاجتماعي، هو كونها قد شكلت أحد الروافع المؤثرة إيجاباً في حركة الثورة العربية، بما فيها تلك التي اندلعت في شبه الجزيرة العربية. لقد كانت الانتصارات المتفرقة التي يحققها الثوار الجزائريون، بقيادة بن بيلا ورفاقه، على الاستعمار الفرنسي، رغم حيزها الصغير الذي كانت تحتله أمام بربرية آلة القمع الفرنسية، عنصر إلهام للشعوب العربية في الجزيرة العربية التي كانت حينها تناضل ضد الاستعمار البريطاني، بأشكاله المتعددة، من عدن اليمنية، حتى المنامة البحرينية. ففي البحرين، كانت صور قيادات الثورة الجزائرية، من أمثال بن بيلا، وبوضياف، هي الأعلام التي تتصدر المسيرات التي كانت تدعو لها “هيئة الاتحاد الوطني”، بوصفها التنظيم السياسي الذي انضوت تحت عباءته كل قوى المجتمع البحريني بكل أطيافها المذهبية. كان الباكر والعليوات سوية مع الشملان، وإبراهيم فخرو، كمال الدين، يرفعون، مع رفاقهم الآخرين، تلك الصور، وحناجرهم تطلق الشعارات الملتهبة “كلنا بن بيلا”، تعبيراً عن تأييدهم للثورة الجزائرية، لكن دون أن ينسوا أن ينهوها بهتاف آخر يدعو الاستعمار البريطاني إلى الرحيل. «كلنا بن بيلا” كان شعار يختزن في ثناياه الكثير من المعاني الثورية التي تفتقر لها العديد من الحركات التي تجتاح المنطقة العربية اليوم، دون التقليل من أهميتها أو إجحافها حقها. فعلى الصعيد السياسي، كان هتاف “كلنا بن بيلا” يشير بوضوح إلى إصرار حركات التحرير في الجزيرة العربية ومن بينها البحرين، بطبيعة الحال، على طرد الاستعمار، إسوة بشقيقتها الجزائرية، ونيل الاستقلال. ومن ثم، وتماماً، مثلما خرج الجزائريون ضد الاستعمار الفرنسي، هب اليمنيون في عدن، والبحرينيون في المنامة، والعمانيون في نزوى، في وجه الاستعمار البريطاني الذي كان يلتحف، وقتها، برداء معاهدات الحماية الجائرة، المجحفة بحقوق الشعوب، والتي كانت، أيضاً، تضفي الشرعية المزيفة على استمرار بقائه، لفرض سيطرته من جهة، ومواصلة نهبه لخيرات البلاد من جهة ثانية. أما على الصعيد الاجتماعي، فقد كان شعار “كلنا بن بيلا”، يرمز، وبتحدٍ سافر غير خجول، إلى الحرب على كل أشكال المذهبية، أو النعرات الطائفية، التي لم تكن تجد لنفسها، في تلك الفترة الذهبية من تاريخ حركة الثورة العربية. كان شعار “كلنا بن بيلا”، يعني الانتماء لثورة الشعب الجزائري، دون أن يقود ذلك إلى أي شكل من أشكال الولاء لشخصية بن بيلا، او صنمية عمياء لما يقوله. تحدت حركة التغيير العربية حينها، النزعات القبلية الضيقة، ورفضت الانصياع للدعوات المذهبية المريضة، وتصدت للنعرات الإقليمية الأنانية المتقوقعة، وتجاوزت بفضل كل ذلك، الحدود الفكرية والسياسية والاجتماعية التي حاولت القوى الاستعمارية أن تزرعها في صفوفها، فنجحت حينها في طرد الاستعمار. حين هتفت البحرين بكل فئاتها “كلنا بن بيلا”، كانت ترفع صوتها بكل ثقة ليس ضد الاستعمار كقوة خارجية فحسب، بل أيضاً ضد مساعي التمذهب، ومحاولت الطأفنة. غادرنا الاستعمار مرغماً، لكننا، وللأسف الشديد، ودون اجترار للتاريخ، ما نزال بحاجة إلى من يعيد الهتاف من جديد “كلنا بن بيلا”. رحم الله بن بيلا وأسكنه فسيح جناته، ورحم الله شعب البحرين وأخرجه من أزمته