د. حنان عبدالحميد

مع فرط استخدام التقنيات التكنولوجية أصبحنا نعيش متلازمة الشاشة الإلكترونية، وهي بمثابة ناقوس خطر حقيقي يهدد مجتمعاتنا وبيوتنا وأطفالنا بوجه الخصوص، وتؤدي تلك المتلازمة إلى زيادة الضغط على المخ وهو ما يؤدي إلى خلل في النُظم البيولوجية، ومن ثم خلل في الجهاز العصبي للأطفال، وبالتالي يضعف تركيزهم وتزيد نسبة السلوك العدواني والعصبية المفرطة ويشعرون بالإحباط والاكتئاب والغضب ويقل مستواهم العلمي، وبالتالي يعزفون عن التفاعل والمشاركة مع الأطفال الآخرين وهذا أكبر دليل ومؤشر على ميلهم إلى العزلة.

والغريب في الأمر أن بعض الأسر تراسل أفرادها داخل المنزل الواحد عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، ولا تستطيع أغلب الأمهات منع أطفالهن. هذا هو العصر الرقمي حيث الانتشار السريع للتقنية والاتصالات والذي غيّر العالم ومعه شكل حياتنا اليومية، وتصرفاتنا في المراحل العمرية المختلفة سواء بشكل سلبي أو إيجابي، فالنتيجة بالمحصلة أنها أثرت في نمط الحياة التي نعيشها وأصبحنا نعتمد عليها بشكل كبير ومفرط. ولعقود طويلة ظلت الأسرة والمدرسة تلعبان دوراً حيوياً في تكوين مدارك الإنسان وساهمتا في تشكيل المنظومة القيمية والأخلاقية التي نشأ عليها. أما اليوم فقد تغير هذا الدور وانتقل جزء كبير منه إلى شبكات التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية المدمرة، ما ساهم في توسيع وتعميق الفجوة وتكريس الصراع بين جيلي الآباء والأبناء. هذه الفجوة أحدثت مشكلة أكبر في مجتمعاتنا ألا وهي التنافر بين أفرادها داخل البيت الواحد، فقطعت الرحم وتلاشت فيها قيم التواصل والمحبة الأسرية وباتت تهددها اليوم في كيانها، حيث بات التواصل بين أفرادها شبه معدوم، كما أن هذه الأجهزة تشكل خطراً على الأسرة وخصوصاً العلاقة بين الزوجين حيث إنها تعزز الشك في ما بينهما وقد تؤدي إلى الخلافات، وقد تنتهي بالطلاق، فانشغال الأهل بالعمل المستمر عبر الأجهزة لا يمنحهم الوقت الكافي لتربية الأطفال، وبالتالي استبدل الأبناء الإنترنت بآبائهم كمصدر للمعلومات، وفقدوا الترابط الأسري والتصقوا بالحديث مع الغرباء إلى درجة الشعور بالغربة على مستوى الأسرة الواحدة.



لقد أوجدت التكنولوجيا جيلاً منقطعاً اجتماعياً، فالكل منكب على جهازه لا يعي ما يدور من حوله. تساؤلات كثيرة تراودنا بهذا الشأن فهل التطور التكنولوجي والهواتف الذكية سرقتنا من بعضنا؟ وهل سيطرت على عقولنا إلى درجة أنها أصابت الأزواج بحالة من الخرس الأسري؟ كم أثارت غيرة الأزواج عند رؤيتهم الآخرين وهم يتواصلون مع أشخاص غرباء؟ وهل الهاتف الذكي هو المتسبب في إصابة مستخدميه بالغباء الاجتماعي والكسل والإدمان؟ وهل ساهمت الأجهزة الذكية في زعزعة الترابط الاجتماعي وتهشيم العلاقات البشرية؟ لا ينكر عاقل أن الهواتف الذكية أصحبت الآن تلعب دوراً كبيراً في حياة الناس؛ فلقد أصبحت وسيلة للتواصل الاجتماعي والمعرفي والترفيه، ولكن التهافت الكبير على التقنية لا بد من أن يمل منه يوماً ما، لأن الانشغال بالهواتف الذكية في التجمعات الأسرية يدل على الجهل والبعد عن حدود اللباقة، كما أنه يحمل دعوة للتوحد؛ لأن الشخص يشعر بأنه دائماً وحده.

لذا يجب ألا يحتل الهاتف الذكي مساحة كبيرة من الوقت المخصص للأسرة والزوج ووضعه جانباً في حال مجالسة الزوج والابتعاد عن الحياة الزوجية الروتينية، ولا بد من حث الأبناء على استخدام هواتفهم بطريقة مسؤولة ومعقولة، ولا بد من غرس هذه المخاطر في أدمغة أبنائنا وتشجيعهم على الاعتدال في استخدام الهواتف الذكية. فاحذروا إدمان الهاتف الذكي لأنه يؤثر على كيمياء المخ، فقد يكون استخدامها باعتدال من أهم آليات تنمية قدرات ومهارات المستخدمين وتوسيع مداركهم وتزويدهم بالمعارف اللازمة لبناء شخصياتهم، إلا أن هذه الفوائد تتوقف على الاعتدال والتوازن بين المجال الافتراضي ومعايشة الواقع والتأقلم مع المحيط وتوفير سياق اجتماعي يتضمن فرصاً للتمكين والتميز للنشء وإتاحة قنوات لاستيعابهم ودمجهم في المجتمع، من خلال الحوار القائم على تقبل الآراء المختلفة، وتعزيز القيم الروحية والأخلاقية لديهم والتي تحض على التعاون والفضيلة واحترام المجتمع والأسرة وتقدير الإنجاز والمعرفة.

وفي النهاية ينبغي أن تظل تلك الوسائط أدوات في أيدينا نستخدمها ولا تستخدمنا، نملكها ولا تملكنا، نتعامل معها بقدر الحاجة ولا نستسلم لما تفرضه علينا من قيم دخيلة.