ترددت كثيراً في كتابة هذا المقال، ولكن هذا التردد هو نفسه أكبر دافع لي لأن أقف مع نفسي أولاً وقفة صدق، ولأنقل للعالم ثانياً رسائل واقعية غير ملونة بالشرائط الزرقاء ورمز الأحجية اللذان يستخدمان بصورة متميزة ودائمة، للدلالة على التوحد في أرجاء المعمورة.

نعم، صحيح أنني أحب الاحتفاء بالاختلاف وإبراز الجوانب الإيجابية والمشرقة في التوحد، ونعم أنا من أشد المناصرين للتنوع العصابي ( Neuro-Diversity ) ولكن هذا لا يعني أنني أقبل السكوت عن الجوانب الحقيقية ذات الأبعاد الكارثية للتوحد، حيث يتجنب الكثيرون التطرق إليها عند أخذه كموضوع توعوي بحت، والأكثر تأثيراً هو عدم إلمام أصحاب المسؤوليات العليا بهذه الجوانب عند صنع السياسات والقوانين الداعمة لهذه الفئة – ليس تقصيراً منهم-، وإنما هي فجوة كبيرة وواضحة في إيصال أبعاد هذا الاضطراب الاجتماعية والاقتصادية عند من يمارس النشاط التثقيفي باضطراب طيف التوحد أو الباحث فيه.

هذه الجوانب عصيبة لمن يعايش هذا الاضطراب شخصياً، وتؤثر على أحبائهم الذي يباشرون الرعاية والعناية بهم بطريقة قد تكون مؤذية جسدياً، ومالياً، ونفسياً على المدى البعيد.



تقول أم لثلاث فتيات مصابات بالتوحد، تبلغ أعمارهن 20و 18 و 14عاماً على التوالي، أنها تكره شهر أبريل وتخصيصه للفرح والاحتفال بالتوحد! وأنا أشاطرها الرأي، أتعلمون لماذا؟ لأنها تعايش التوحد الحقيقي الذي لا ترونه في الصور ولا في المقالات ولا حتى في الأفلام التي تتناول شخصية التوحد كشخصية تلعب دور البطولة وتنتصر وتهزم عوائق هذا الاضطراب في ختام ساعة ونصف هوليوودية قاصرة!

حسناً، ليس هذا هو الحال في الواقع! ماهو الواقع إذاً؟

تقول هذه الأم: آكل وأنام وأعيش التوحد كل يوم. ابنتي الصغرى، 14 عام، لا تستطيع التحدث بكلمة واحدة "توحدية غير ناطقة" وتعرضت للإيذاء في حافلة المدرسة، مما دفعني لرفع الأمر للقضاء لكي أحميها ولا يضيع حقها! تعرضت ابنتي الأكبر، ذات العشرين عاماً، للمئات من نوبات الصرع العظمى سنوياً من سن 6 إلى 10 سنوات، والتي استدعت الرعاية والملاحظة الطبية الدقيقة إلى أن استقرت صحياً. طفلتي الوسطى تعاني من القلق الشديد الذي يؤثر على استقرار حياتها وحياتنا معها. بالنسبة للفتيات الثلاث، فهن غير مستقلات تماماً رغم تقدم أعمارهن، يجب أن أقوم بتقطيع طعامهم وإعداده بطريقة خاصة لكل واحدة حسب احتياجها الذي لا يشبه شقيقاتها، وأعتني باحتياجاتهم الأنثوية الشهرية، وأقوم بتحميمهن باستمرار.

هذا الكلام بليغ جداً في معناه، ويكشف جوانب قاسية يتشاطرها الكثيرون الذين يعتنون بابن أو ابنة من ذوي التوحد. ويمتد هذا الألم للأشقاء الذين لا يعانون من التوحد، فكثير من المسؤوليات تقع على عاتقهم قبل أوانها بسبب انشغال الوالدين أو أحدهما بالعناية الخاصة والمكثفة للشقيق التوحدي الذي يكون محور العصب الأسري ولا يقبل المنافسة في الوقت والجهد والتربية والتأهيل، والمال أيضاً بشكل خاص، إن لم يكن تأهيله حكومياً مجانياً أو مدفوعاً من قبل شركات التأمين. بالإضافة لنقطة خفية يقوم المجتمع بتشجيعها كممارسة تعويضية احتياطية، وهي إنجاب أطفال آخرين خصيصاً ليتوارثوا مهمة الرعاية والعناية جبراً وقسراً وحصراً للشقيق المصاب بالتوحد! وهذه المسألة بحد ذاتها موضوع مؤلم سنتناوله بالتفصيل في مناسبات أخرى.

ثمن التوحد الحقيقي، لنكن واضحين أكثر ولنضع أيدينا على الجرح بشكل تشخيصي أكثر دقة التوحد ليس نزهة في الحديقة لأولئك الذين يعانون منه، ولا لأحبائهم على الإطلاق.

أفادت إحدى الجمعيات الرائدة في مجال صحة وسلامة التوحد، أن 48٪ من الأطفال المصابين بالتوحد يتجولون أو يهربون من البيئة المنزلية الآمنة ألأسباب حسية غالباً، أو فضول مدفوع بعدم وعي بالمخاطر الخارجية وتحديات سلوكية لم تخضع للتحليل والعلاج السلوكي"، وهو معدل أعلى بأربع مرات تقريباً من إخوتهم غير المصابين بالتوحد. وتمثل الحوادث وتحديداً منها الغرق حوالي 91٪ من وفيات الأطفال المصابين بالتوحد تحت سن 14 عاماً ويواجه هؤلاء الأطفال أيضاً التنمر بشتى أنواعه والإقصاء والعزلة المجتمعية.

كذلك يواجه الشباب المصابون بالتوحد جودة حياة قاتمة، فهم غالباً في دولنا العربية لا يلتحقون بالمقاعد الجامعية ولا يحصلون على وظائف تؤمن لهم العيش الكريم والاستقلالية الحياتية المادية، بالمقارنة مع أولئك الذين يعانون من إعاقات أخرى ظاهرة جسدياً وتحصل على جميع أنواع الدعم المتوافق مع تقدمها في العمر تصاعدياً. فيقبع شباب التوحد في المنزل في فراغ لانهاية له بعد سنين التدخل والتأهيل المكثف، والتي قد تُهدم تدريجياً وتذهب في مهب الريح إن لم تستثمر بطريقة صحيحة.-يتبع-

د. فاطمة مرهون طبيبة ومستشارة في الوراثة

رئيسة اللجنة التثقيفية التوعوية

جمعية التوحديين البحرينية