نحن الذين نسكن مدن النهار بصخبها وعنائها وازدحام الحياة فيها، قد لا نثمن مذاق ساعات الليل المتأخرة وبدايات الفجر. ربما توحشنا، ربما تخيفنا، ربما يصيبنا سكونها الدامس بالكآبة وصنوف المخاوف. وكثيراً ما ارتبط الليل في حياتنا بسهر المرض أو الأزمات وأرق الأحزان، أو بالسهر الاختياري الذي يؤثر على لياقتنا في الصباح الباكر. والأمر يختلف كثيراً عند الذين يعشقون الليل ويسكنونه كاملاً، أو لساعات طويلة من السهر المؤنس. فهم يبدؤون يومهم مع انصرافنا نحن بانصرام الربع الأول من الليل.

بالتأكيد ستصادف الكثيرين منهم حولك. سواء من الأصدقاء، أو المعارف، أو من تربطك بهم صلة عمل ثابتة، أو عابرة. هؤلاء عرفوا كيف يرتبون «روتينهم» اليومي على نحو ليلي. فنصبح نحن بالنسبة إليهم نهاريين. وتلقائياً نلقبهم بالكائنات الليلية. بعضهم مثلنا، يعملون صباحاً، وعليهم الحضور باكراً في أعمالهم. هؤلاء يستسلمون لقسط طويل من النوم عصراً. كي يقسموا الليل قسمة غير عادلة: ثلاثة أرباع إلى الربع، يكون النصيب الأكبر فيها للسهر. وآخرون هم أكثر تطرفاً التقيت أحدهم، ينام من الساعة الخامسة عصراً حتى الحادية عشرة ليلاً، ثم يستيقظ حتى الخامسة عصراً في اليوم التالي!!!

إنهم يجيدون الحياة ليلاً، بعضهم يعمل ويبدع كالشعراء، والرسامين، والكتاب. وبعضٌ يعقد جلسات المتعة والسمر مع حلفائه من عشاق الليل. ليسوا في أفضل أحوالهم نهاراً، لكنهم قادرون على ضبط توازنات حياتهم الخاصة والعامة المهنية والأسرية على نحو يمكنهم من تلبية احتياجاتهم واحتياجات أسرهم، وعلى التمتع بحيوية لياليهم وجمالياتها التي صنعوها بأنفسهم.

تعاقب الليل والنهار قانون كوني لم يصنعه البشر. لكنهم تواضعوا على ترسيخ نظامه الثابت بالعمل نهاراً والهدوء والنوم ليلاً. ولأن كل الأنظمة يمكن الالتفاف حولها، والانقلاب عليها. فبإمكان أي منا أن يقلب ليله نهاراً ونهاره ليلاً، أو أن يخلق معادلته الخاصة التي تبعث الحياة في كلا الوقتين. نحن «البشر» من يمنح الأشياء معانيها، ودلالاتها. نحن من يجعلها أحادية أو متعددة. نحن من يجعل الشمس علامة للدفء والنشاط والعمل، أو يجعل منها ناقوساً للانصراف والخلود إلى النوم.