في إطار الجهود التي يبذلها صندوق النقد العربي لدعم متخذي القرار في الدول العربية، أطلق الصندوق الإصدار الأول من تقرير "آفاق الاقتصاد العربي"، الذي يستهدف إمداد صناع السياسات في الدول العربية برؤية استشرافية وتحليلية لأداء الاقتصاد الكلي للدول العربية على عدد من الأصعدة تتمثل في النمو الاقتصادي، واتجاهات الأسعار، والأوضاع النقدية، والمالية العامة، والقطاع الخارجي. تم استخلاص التوقعات المُضمنة في التقرير استناداً إلى أحدث التطورات في البيئة الاقتصادية الدولية، بما يعكس التطورات والمستجدات في الاقتصادات العربية ومسارات الإصلاح الاقتصادي المختلفة.
توقع التقرير الصادر عن الصندوق تحقيق الدول العربية لمعدل نمو يصل إلى 3 في المائة العام 2015. أوضح التقرير أن المنطقة العربية شهدت مع بداية عام 2015 عدداً من التطورات الاقليمية والدولية، التي من شأنها التأثير على مستويات النمو الاقتصادي المتوقعة هذا العام. يأتي على رأس هذه التطورات الاتجاه النزولي لأسعار النفط العالمية التي سجلت تراجعاً كبيراً مطلع عام 2015، والذي ظهرت بوادره مع الربع الأخير من عام 2014، حيث انخفضت بنحو 60 في المائة في شهر يناير عام 2015 مقارنة بالمستويات المسجلة في شهر يونيو عام 2014، وبقيت خلال الربع الأول من العام دون مستوى 55 دولار للبرميل. فمن شأن هذا الانخفاض أن يؤثر بدرجاتٍ متفاوتةٍ على أداء الدول العربية المصدرة للنفط التي تسهم بنحو 78 في المائة من الناتج المحلي للدول العربية بالأسعار الثابتة. من جانب آخر، أوضح التقرير أن بعض الدول العربية المصدرة للنفط قد شهدت بعض التطورات المحلية خلال عام 2015 بما قد يحد من آفاق النمو في هذه البلدان.
في المقابل، توقع تقرير "آفاق الاقتصاد العربي" تحسن وتيرة النمو في الدول العربية المستوردة للنفط كنتيجة للاستقرار النسبي في الأوضاع المحلية ببعض دول المجموعة التي مرت بتحولات سياسية خلال السنوات الماضية، والتأُثير الإيجابي لمُضي دول المجموعة قدماً في تنفيذ إصلاحات اقتصادية مهمة من شأنها المساهمة في دفع النشاط الاقتصادي. من جانب آخر، سوف يساهم تراجع أسعار النفط العالمية في توفير حيز مالي يُمكن تلك البلدان جزئياً من زيادة الانفاق العام الداعم للنمو الاقتصادي، والتخفيف من حدة الاختلالات الاقتصادية التي تواجهها.
كمحصلة للعوامل السابق الإشارة إليها توقع التقرير تحقيق الدول العربية كمجموعة معدل نمو يتراوح حول 3 في المائة خلال عام 2015. أما على صعيد المجموعات الفرعية، من المتوقع أن تسجل الدول العربية المصدرة للنفط معدل نمو يتراوح حول 2.9 في المائة مقارنة بنحو 3.7 في المائة لعام 2014.
وتوقع التقرير كذلك تباين وتيرة النمو المحققة داخل هذه المجموعة، حيث من المتوقع تأثر اقتصادات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بدرجة أقل بانخفاض الأسعار العالمية للنفط مقارنة بالدول العربية النفطية الاخرى لعدد من العوامل من أهمها: إعلان عدد من دول المجموعة التزامها بتبني سياسات مالية معاكسة للدورة الاقتصادية لحفز النمو، وتسارع وتيرة النمو في عدد من القطاعات غير النفطية مدفوعة بالزيادات المتلاحقة في الانفاق العام، وزيادة مستويات التنويع الاقتصادي في بعض دول المجموعة. على ضوء ما سبق، توقع صندوق النقد العربي أن يتراوح معدل النمو المتوقع لدول مجلس التعاون حول 3.2 في المائة العام الجاري مقارنة بنحو 4 في المائة للنمو المسجل العام الماضي. في المقابل توقع التقرير تراجع وتيرة النمو في الدول العربية الأخرى المصدرة للنفط إلى نحو 1.7 في المائة خلال عام 2015.
أما فيما يتعلق بالدول العربية المستوردة للنفط فمن المتوقع تحسن وتيرة النمو بها ليصل إلى 3.7 في المائة خلال عام 2015 مقارنة بنحو 2.8 في المائة للنمو المسجل عام 2014، بما سوف يخفف نسبياً من أثر تراجع أسعار النفط على معدل نمو الاقتصاد العربي خلال العام الجاري. يأتي ذلك في ضوء وجود عدد من العوامل المحفزة للنشاط الاقتصادي من بينها التطورات الإيجابية في الأوضاع الداخلية، والتأثير الإيجابي لتراجع الأسعار العالمية للنفط على اقتصادات دول المجموعة إضافة إلى تبني عدد من الاصلاحات الهيكلية المحفزة للنمو الاقتصادي.
ولاتزال دول المنطقة تواجه عدداً من التحديات الاقتصادية يأتي على رأسها انخفاض وتيرة النمو دون المستويات التي تُمكن هذه الدول من تحقيق إنجاز ملموس على صعيد خفض معدلات البطالة، التي تمثل أهم التحديات الاقتصادية التي تواجه الدول العربية وتطورات الأوضاع الداخلية في بعض البلدان العربية وتباطؤ وتيرة تنفيذ عدد من الإصلاحات الهيكلية المهمة بما يحد من قدرة هذه الدول على رفع مستويات الناتج الممكن الوصول إليه (Potential Output)..
فيما يتعلق بمعدلات التضخم، أشار التقرير إلى أن معدلات التضخم قد شهدت اتجاهاً نحو الانخفاض في عدد من الدول المتقدمة والنامية خلال السنوات السابقة بفعل تراجع الأسعار العالمية للنفط والغذاء. ومن المتوقع خلال عام 2015 استمرار تراجع الأسعار العالمية للغذاء وبقاء أسعار النفط دون مستوياتها مقارنة بالأعوام السابقة، وهو ما سينعكس على اتجاهات الأسعار في الدول العربية بدرجات متباينة، حيث ستعمل تلك الانخفاضات على تقليل أثر التضخم المستورد في عدة دول عربية خاصة تلك التي ترتفع فيها الأهمية النسبية للسلع الغذائية المستوردة في سلة الرقم القياسي للأسعار، وهو ما سيحد من الضغوط التضخمية في تلك الدول.
من جانب آخر، توقع التقرير أن تشهد بعض الدول العربية ضغوطات تضخمية مختلفة ناتجة عن ارتفاع مستويات الطلب المحلي، وزيادة معدلات تسارع النشاط الاقتصادي في بعضها، وارتفاع أسعار الأصول والعقارات وإيجارات المساكن في بعضها الآخر، وهو ما سيحد نسبياً من استفادة الدول العربية كمجموعة من تراجع الأسعار العالمية للنفط والغذاء. من جانب آخر، من شأن التطورات الداخلية التي تشهدها بعض بلدان المنطقة أن تفرض ضغوط على المستوى العام للأسعار نتيجة الاختناقات في جانب العرض وتأثر سلاسل الإمداد للسلع الأساسية.
كمحصلة للتطورات المشار إليها، من المتوقع تراجع معدل التضخم في الدول العربية كمجموعة بشكل طفيف من 4.27 في المائة عام 2014 إلى 4.14 في المائة عام 2015. وستتفاوت اتجاهات الأسعار بين مجموعات الدول العربية المختلفة، ففي حين من المتوقع ارتفاع معدلات التضخم في بعض الدول العربية المصدرة للنفط، من المتوقع أن تشهد معدلات التضخم تراجعاً في الدول العربية المستوردة له.
فيما يتعلق بالتطورات النقدية، توقع تقرير "آفاق الاقتصاد العربي" حدوث تغير في موقف السياسة النقدية خلال عام 2015 في بعض الدول العربية التي تتبني نظماً ثابتة للصرف للمرة الأولى منذ ست سنوات، بما يعكس التطورات العالمية المتوقعة في هذا السياق، حيث يتوقع اتجاه بعض هذه الدول إلى تقييد السياسة النقدية. أما بالنسبة للدول العربية التي تتبنى نظماً أكثر مرونة للصرف فمن المتوقع أن يستمر الموقف التقليدي للسياسة النقدية في بعضها لمواجهة الضغوط التي تواجه عملاتها بسبب الارتفاع المتوقع في قيمة الدولار أو بما يعكس تطورات السوق المحلية، في حين يتوقع أن يبقى موقف السياسة النقدية في بعضها الآخر تيسيرياً لحفز النمو الاقتصادي وزيادة الائتمان الممنوح للقطاع الخاص الذي لا يزال يشهد نمواً أقل من المعدلات التي يمكن الوصول إليها.
فيما يتعلق بالتطورات المالية، أوضح التقرير أن من شان التطورات الأخيرة في أسواق النفط الدولية أن تؤثر على أوضاع الموازنات العامة للدول العربية على اختلاف هياكلها الاقتصادية خلال عام 2015. فمن جهة، من المتوقع أن تتأثر موازنات الدول العربية المصدرة للنفط، في المقابل، سوف تستفيد الدول العربية المستوردة للنفط من جهة أخرى من الاتجاه النزولي للأسعار الذي سوف يؤدي إلى توفير حيزاً مالياً يساعدها على زيادة مستويات الانفاق الرأسمالي والاجتماعي.
في المجمل، من المتوقع أن تنعكس تلك التطورات سلباً على أوضاع الموازنة العامة المجمعة للدول العربية، حيث ستؤدي إلى اتساع مستويات العجز في الموازنة للدول العربية ليصل إلى نحو سبعة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بعجز بحدود واحد في المائة من الناتج خلال العام السابق، الذي شهد خلافاً للاتجاه العام تحول الفائض المسجل في الموازنة العربية المجمعة إلى عجز. سوف تتباين أوضاع المالية العامة في مجموعات الدول العربية المختلفة، حيث من المتوقع ارتفاع عجز الموازنات في الدول العربية المصدرة للنفط، فيما ستسهم إصلاحات المالية العامة المطبقة في الدول العربية المستوردة للنفط، إضافة إلى التأثير الإيجابي لتراجع أسعار النفط على فاتورة دعم الطاقة في خفض العجز في موازنات تلك الدول وهو ما سيسهم جزئياً في الحد من عجز الموازنة العامة للدول العربية كمجموعة.
أخيراً، وفيما يتعلق بالأداء المتوقع للقطاع الخارجي في الدول العربية، توقع التقرير تأثر أداء ميزان المعاملات الجارية للدول العربية كمجموعة خلال عام 2015 بالتراجع الذي شهدته الأسعار العالمية للنفط الذي بدأ مع نهاية العام الماضي. وعلى الرغم من بوادر التعافي الذي يشهده الأداء الاقتصادي لبعض الدول المتقدمة، إلا أن تباطؤ النمو الاقتصادي في دول منطقة اليورو سيكون له الأثر الأكبر على الصادرات غير النفطية للدول العربية. من جهة أخرى، من المتوقع أن يسهم الارتفاع المتوقع في مستويات أسعار الفائدة العالمية في زيادة المتحصلات من دخل الاستثمار في الدول العربية. نتيجة للتطورات السابقة توقع تقرير "آفاق الاقتصاد العربي" تحول الفائض في ميزان المعاملات الجارية للدول العربية كمجموعة إلى عجز قدره 131.8 مليار دولار يمثل 4.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع للدول العربية خلال عام 2015.