يحتفل المصريون، اليوم الاثنين، بعيد شم النسيم، وهو احتفال سنوي تخرج فيه العائلات المصرية إلى المتنزهات والحدائق العامة وأماكن الترفيه ويتناولون أكلات مخصصة لهذا اليوم تحديدا، وتندرج ضمن طقوسه مثل الفسيخ والبصل و البيض الملون والخس.
لكن لماذا اختار المصريون هذا اليوم تحديدا للاحتفال بشم النسيم؟ ولماذا تلك الطقوس المصاحبة له كتناول الفسيخ والبيض الملون؟
الدكتور عبدالرحيم ريحان، الخبير الأثري ومدير عام البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمي بوجه بحري وسيناء بوزارة الآثار المصرية، يروي لـ"العربية.نت" أسباب تفاصيل وطقوس هذا الاحتفال، ويقول إن شم النسيم عيد مصري قديم احتفل به قدماء المصريين منذ عام 2700 قبل الميلاد، وكان يطلق عليه "شمو" باللغة المصرية القديمة، ثم تحرفت إلى شم، وأضيف إليه النسيم، وكانت السنة عندهم تبدأ بعد اكتمال القمر الذي يقع عند الانقلاب الربيعي.
ويوضح د. ريحان أن عيد الفصح اليهودي والمسيحي جاء ارتباطهما بشم النسيم بالصدفة، حيث أخذ بنو إسرائيل هذا الاحتفال عن قدماء المصريين حين خرجوا من مصر مع نبي الله موسى عليه السلام، واختاروا هذا اليوم بالذات للخروج حتى لا يلفت انتباه المصريين مع انشغالهم بالاحفال بهذا اليوم، واحتفل اليهود بهذا اليوم أيضا، وأطلقوا عليه عيد الفصح، وهي كلمة عبرية معناها الخروج أو العبور، واشتقت منها كلمة "بصخة"، إشارة إلى نجاتهم، وهكذا اتفق عيد الفصح العبري مع عيد شمو المصري، ثم انتقل الفصح بعد ذلك إلى المسيحية لموافقته مع موعد عيد القيامة، ولما انتشرت المسيحية في مصر أصبح عيد القيامة يلازم عيد المصريين القدماء، حيث يأتي شم النسيم يوم الاثنين الذي يلي عيد القيامة، وهو العيد الأكبر عند المسيحيين، ويكون الاحتفال بهذا العيد يوم الأحد.
ويتابع د. ريحان أن المصريين حددوا عيد الربيع بميعاد الانقلاب الربيعي، وهو اليوم الذي يتساوى فيه الليل والنهار وقت حلول الشمس في برج الحمل يوم 25 من شهر برمهات، وكانوا يحتفلون بالإعلان عن ذلك اليوم بليلة الرؤية حيث يجتمعون أمام الواجهة الشمالية للهرم الأكبر في الساعة السادسة من ذلك اليوم حين يظهر قرص الشمس قبل الغروب، وخلال دقائق محدودة يبدو كأنه يجلس فوق قمة الهرم، ويرى بعض المؤرخين أن الاحتفال به كان معروفاً ضمن أعياد هيليوبوليس ومدينة أون عاصمة مصر في العصور القديمة، وكانوا يحتفلون به في عصر ما قبل الأسرات.
ويشير د. ريحان إلى أن قدماء المصريين كانوا يحتفلون بعيد شم النسيم في الليلة الأولى أو ليلة الرؤية بالاحتفالات، ثم يتحول مع شروق الشمس إلى عيد شعبي تشترك فيه كل طوائف الشعب، ويشارك الفرعون وكبار رجال الدولة الشعب في أفراحه باعتبار شم النسيم هو العيد الذي تبعث فيه الحياة ويتجدد النبات وتنشط الكائنات وتحمل نسمة الربيع رسالة ميلاد الطبيعة بما تحمله من أريج البراعم النامية وعبير الزهور المتفتحة، وذلك طبقاً لما جاء في كتاب لغز الحضارة المصرية للدكتور سيد كريم.
ويضيف أن المصريين كانوا يخرجون إلى الحدائق والحقول والمتنزهات لاستقبال الشمس عند شروقها يحملون معهم أدوات اللعب للأطفال والآلات الموسيقية، وتتزين الفتيات بعقود الياسمين، وهي زهور الربيع، ويحمل الأطفال زعف النخيل المزين بالألوان والزهور، ويمرح الجميع على أنغام الناي والمزمار والقيثار ودقات الدفوف تصاحبها الأناشيد والأغاني الخاصة بعيد الربيع، كما تجري المباريات الرياضية والحفلات التمثيلية، وكانت صفحة النيل تمتلئ بالقوارب التي تزينها الزهور وغصون الأشجار المثمرة، وقد نقشت على أشرعتها كلمات الترحيب والتهنئة بعيد الربيع، وتقام الحفلات والندوات في الميادين والأماكن العامة.
خلق الحياة من الجماد
لكن لماذا ارتبط شم النسيم بطقوس تناول البيض والفسيخ ؟ يجيب الدكتور عبدالرحيم قائلا لأن البيض يرمز إلى خلق الحياة من الجماد، ولذلك فإن تناول البيض في هذه المناسبة يبدو كأنه إحدى الشعائر المقدسة عند قدماء المصريين، وقد كانوا ينقشون على البيض دعواتهم وأمنياتهم للعام الجديد، ويضعون البيض في سلال من سعف النخيل يعلقونها في شرفات المنازل أو في أغصان الأشجار لتحظى ببركات الإله عند شروقه فيحقق أمنياتهم.
أما الفسيخ أو "السمك المملح" فقد ظهر بين الأطعمة التقليدية في الاحتفال بالعيد في عهد الأسرة الخامسة، مع بدء الاهتمام بتقديس النيل، وقد أظهر المصريون القدماء براعة شديدة في حفظ الأسماك وتجفيفها وصناعة الفسيخ.
كذلك كان البصل من بين الأطعمة التي حرص المصريون القدماء على تناولها في تلك المناسبة، وقد ارتبط عندهم بإرادة الحياة والتغلب على المرض، فكانوا يعلقون البصل في المنازل وعلى الشرفات، كما كانوا يعلقونه حول رقابهم، ويضعونه تحت الوسائد، وما زالت تلك العادة منتشرة بين كثير من المصريين حتى اليوم.
وكان الخس من النباتات المفضلة في ذلك اليوم، وقد عُرِف منذ عصر الأسرة الرابعة، وكان يسمى بالهيروغليفية "عب"، وقد لفت ذلك أنظار بعض علماء الغرب فقاموا بإجراء التجارب والدراسات على نبات الخس، وكشفت تلك البحوث عن حقيقة عجيبة، فقد ثبت لهم أن ثمة علاقة وثيقة بين الخس والخصوبة، ومن الأطعمة التي حرص قدماء المصريين على تناولها أيضا في الاحتفال بعيد "شم النسيم" نبات الحمص الأخضر، وهو ما يعرف عند المصريين باسم "الملانة"، وقد جعلوا من نضوج ثمرة الحمص وامتلائها إشارة إلى قدوم الربيع.