أدار الندوة: أيمن شكل

أجمع رجال دين على أهمية التوفيق بين الفقهاء والفلكيين فيما بين رؤية الهلال بالعين المجردة والحسابات الفلكية، مؤكدين أنها ضرورة لا مفر منها، فيما وجه الفلكيون رسالة للمتحمسين من نظرائهم بعدم التشبث بآرائهم وتعقيد الأمور بما يحفظ مكانة رجال الشريعة وآرائهم، ويشجعهم على الأخذ بالحسابات الفلكية.

جاء ذلك في ندوة "الوطن" حول "رؤية الهلال من وجهتي النظر الشرعية والفلكية"، وشارك فيها كل من أستاذ الفقه المقارن والقضايا المعاصرة قسم الدراسات الإسلامية بجامعة البحرين د. عبدالستار الهيتي، وأستاذ الفيزياء التطبيقية د. وهيب الناصر.



وفيما أكد الهيتي أن نسبة الخطأ في الحساب الفلكي لا تقترب من 1 الألف، بينما الرؤية دليل ظني، أوضح الناصر أن رجال الدين والشريعة اليوم لا يرفضون رؤية الهلال بواسطة التليسكوب على الرغم من كونها رؤية بغير العين المجردة.. وفيما يلي نص الندوة:

"الوطن": ما هي طبيعة الخلاف بين رجال الشريعة والفلكيين في رؤية الأهلة؟

- الهيتي: معظم الناس يميلون إلى الرأي الوسطي في الرؤية، على الرغم من وجود رأيين متناقضين منذ القرن الأول للهجرة والذي ظهر فيه وجهة نظر الفلك، لكن إشكالية المعاصرين أن كل واحد منهم لا يسمع الآخر، وهناك من يرى أن فكرة الحساب الفلكي تعتبر خروجا ونبذا للجانب الشرعي وهناك آخرون يرون أن الحساب الفلكي هو المعتمد، ولذلك اتخذت رأيا وسطا بأن كليهما يكمل الآخر.

الرؤية بالعين والحساب الفلكي، كلاهما وسيلتان ولا يجب أن نختلف في الوسائل ما دامت الأهداف والغايات واحدة، فالوسيلة تتطور بتطور الزمن وتأخذ مجالات واسعة وحتى الآليات والطرق تختلف من جيل إلى جيل ومن بيئة إلى بيئة، لكن مشكلة رجال الإفتاء أن لديهم حس التعصب غير المعلن.

فكل واحد منهم يعتقد أن رأيه هو الصحيح ورأي الآخرين خطأ وتلك هي الطامة الكبرى في الفقه الإسلامي، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا يمكن الحكم على شيء دون أخذ وجهة نظر المتخصص، وتأتي وجهة النظر الشرعية لتعطي مشروعية للقضية من عدمها.

القرآن يتحدث أيضا عن الفلك في الآيات لقوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر ... والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم.. وكل في فلك يسبحون). وكأن سورة "يس" تتحدث عن رؤية فلكية علمية دقيقة بلغة الأرقام والمنازل وهذا ما يقوله الفلكيون.

أرى أن هناك رؤية شرعية لا تخرج عن إطار القرآن الكريم والسنة النبوية، وحتى مسألة أطوار القمر التي يمر بها تتضمن إشارة واضحة للقياس الفلكي، وما يغيب عن بعض المشايخ المتخصصين أن في إثبات هلال رمضان 3 أحاديث تحتوي كل التطورات الزمنية والفكرية والحضارية والعلمية.

الأول يقول "صوموا لرؤيته فإن غم عليكم والثاني "لا تصوموا حتى تروا الهلال... وهنا حساب كامل. وفي الثالث قوله "نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نحسب".

فأرى من خلال هذه الآيات والأحاديث، أن إثبات الشهور القمرية يتم من خلال 3 وسائل، الأولى والمتفق عليها وهي رؤية الهلال بنص الحديث: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، والثانية هي إكمال عدة الشهر بثلاثين وقد اعتبرها الفقهاء وسيلة قطعية عند عدم ثبوت الرؤية، والثالثة هي الوسيلة العلمية البديلة عن الرؤية والإكمال وهي الحساب الفلكي أو "التقدير" الذي نص عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الإشكالية التي حصلت لدى بعض الفقهاء قديماً وحديثاً، أن بعضهم اعتبر "أقدروا له" هو حساب المنازل والتقدير وهو رأي عدد قليل من الفقهاء، والأغلبية قالوا إن "المقصود بالتقدير هو تمام العدة بثلاثين"، والحقيقة أن هذا الرأي لا يسلم به، فالتقدير يختلف عن إكمال العدة التي يعرفها العامة، لأنه يحتاج لمتخصصين.

كما أرى أن الحساب الفلكي أو التقدير أيا كان شكله حتى ولو كان بدائيا لم يكن وليد الساعة، فلقد كان مطرف ابن عبدالله الشخير أول من طالب بالحساب الفلكي للرؤية وجاء بعده مقاتل الرازي من تلاميذ محمد بن حسن الشيباني في القرن الثالث الهجري، والقاضي عبدالجبار المعتزلي في القرن الرابع وبن قتيبة الدينوري في القرن الثالث الهجري وابن دقيق العيد، وكل هؤلاء قالوا بإمكانية اعتماد الحساب الفلكي.

وحول الحديث النبوي في صحيح البخاري "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب"، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث عن القرن الأول الهجري وهذا يعتبر واقع حال وليس حكما شرعيا يتحدث فيه عن عصر الرسالة، وفي هذا إشارة أن الأمة متى ما تعلمت الكتابة والحساب، فمن حقها أن تستخدم الوسائل العلمية للوصول إلى إثبات رؤية الهلال.

"الوطن": ذكرت في وقت سابق أن الأجهزة الحديثة يمكنها رؤية الهلال وقت الظهيرة، فهل هناك حوادث سابقة لمثل هذا الموقف؟

- الناصر: تقنية رصد الهلال ظهرا هذه ابتكرها شاب ألماني واستخدم ما يسمى ccd camera، وتلك تستخدم تقنية التقاط مجموعة من الصور للقمر في النهار، ومن ثم وضع هذه الصور ضمن برنامج خاص يجمعها لتشكيل صورة واضحة وواحدة لوضع القمر في حال ظهوره كهلال بداية الشهر.

"الوطن": ولكنها تبقى صورة غير واقعية للهلال لأنها مكونة من طبقات من الصور..ما رأيك؟

- الناصر: على العكس تماما فهي صورة حقيقية وانعكاس لشيء ما، فعندما يقوم شخص آخر باستخدام نفس التقنية ونفس الأجهزة والتقاط صور للقمر وإثبات تكون الهلال، فذلك يؤكد بوجود الهلال ودون أي شك، وبمعنى آخر أن النظرية العلمية عند ثبوتها واقعا في أكثر من تجربة فهي تكون أمرا حقيقيا لا يقبل الجدل.

جميع الكواكب لا يمكن رؤيتها في ضوء النهار، لكنها بالفعل موجودة ولا يمكن إنكارها بسبب عدم رؤيتها، لأن انعدام الرؤية بالعين المجردة مرجعه إضاءة الشمس للسماء وتعميتها لباقي الكواكب والأجرام السماوية، والتي تظهر عند اختفاء هذا الضوء، وبذلك لا يعني عدم رؤية الهلال بالعين المجردة أنه غير موجود فعلا وواقعا.

واليوم نستخدم مثل هذه التطبيقات في جميع دول العالم وفي البحرين حتى لمعرفة أوقات الصلاة ورؤية هلال الشهر، ولا يمكن نفي عدم تكون الهلال بسبب انعدام الرؤية أو قلة وضوحها، فلو تم تصوير شخص بكاميرا فهذا يعني أنه موجود على الرغم من أن آخرين لم يشاهدوه واقعا ملموسا، وأنا أؤمن بوجود الهلال من خلال المحاكاة الدقيقة.

واليوم نستطيع رصد تحركات مسبار على بعد مئات ملايين الكيلومترات، وهو من صنع البشر، فما بالك بالقمر الذي يتحرك منذ ملايين السنين ونعرف تحركاته وتم قياسها بدقة وحساب وقتها ومدارها في الكون وحول الكرة الأرضية، وذلك من خلال تراكم معلوماتي على مر الأزمان بحيث أصبحت دقة رصده بنسبة 99.999%، واليوم في الهاتف يمكن تنزيل برامج تعطي البشر الرصد الدقيق لمواقع النجوم بين أيدي الناس البسطاء وبسهولة ودقة تامة، وهناك العديد من البرامج المعتمدة التي تخدم في هذا المجال اليوم وتؤكد وجود الهلال والأجرام في السماء، بينما يريد رجال الشريعة أن يتقدم شخص ليقول أنه رأى الهلال بالعين المجردة، أو حتى بالتليسكوب.

"الوطن": لا نلوم أهل الشرع في الالتزام بالشرع والحديث!

- الناصر: رجال الدين والشريعة اليوم لا يرفضون رؤية الهلال بواسطة التليسكوب على الرغم من كونها رؤية بغير العين المجردة، وبجهاز لم يكن موجودا على أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، فما الفرق بين استخدام التلسكوب أو البرامج الفلكية، فكلاهما لم يكونا في عصر النبوة ووقت أن ذُكرت الأحاديث النبوية الشريفة، وحين أشار الرسول بيديه عن عدد أيام الشهر بتسع وعشرين أو ثلاثين يوما، فتلك كانت تحاكي هذا العصر، وقد أضاف عليه الصلاة والسلام قائلا "فإذا عمي عليكم فأقدروا له" وهو ما يعني "إذا وجدت وسائل أخرى فاستخدموها".

"الوطن": جزء لا يستهان به من علماء الشريعة يرفضون الوسائل الحديثة للرصد. ما السبب؟

- الناصر: ذكر الله تعالى في سورة النحل (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) وهذا لا يعني اليوم أنني ملزم باستخدامها كوسيلة ركوب، ورفض استخدام الوسائل الحديثة مثل السيارة والطائرة وغيرها، بل إن تلك الدواب كانت وقتها زينة وتؤشر على مقام وشخصية من يركبها، فمن كان لديه حمار كأنه يمتلك سيارة مرسيدس، ومن لديه خيل كأنه يمتلك رولزرويس، بينما اليوم الوضع اختلف تماما وتغيرت مكانة تلك الدواب بحسب أنواعها، ويرفض عامة الناس ركوبه اليوم، كما أن منها الخيل الذي يستخدم في الرياضة وليس التنقل والحروب كما كان العهد في السابق، ولذلك تتغير الوسائل بتغير الأزمنة، وهنا أطرح سؤالا: لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم بيننا اليوم، فهل سيستبدل الرؤيا بالحساب الفلكي المستخدم اليوم؟.

- الهيتي: الحقيقة أن هذه المسألة من الناحية الشرعية فيها 3 آراء، الأول: عدم جواز استخدام الحساب الفلكي في رؤية الهلال لا في النفي ولا في الإثبات، ولا يعتد بالحساب الفلكي إطلاقا، وهذا الرأي قاله غلاة الظاهرية، الذين عملوا بظاهر الحديث "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وقال إن المطلوب هي الرؤية البصرية وليس الفلكية أو الإلكترونية، فنحن متعبدون بالعين المجردة، وتراجع هؤلاء وقالوا يمكن استخدام التلسكوب في رؤية الهلال.

وردنا على هذا الأمر هو أن الرؤية البصرية كانت موجودة في عصر النبوة، ولو كانت هناك أدوات أو وسائل أخرى لأخذ بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأمر الناس باعتمادها، فليس الغرض هو التعبد بالعين، ولكن أن يتخلف الهلال عن الشمس ليبدأ منزلة جديدة وبرجاً جديداً، ونحن نتكلم عن شهور قمرية والغرض هو بداية الشهر القمري، وهو ما قاله الشيخ أحمد شاكر والشيخ مصطفى الزرقا واعتمده أبو العباس ابن سريج، في القرن الثالث الهجري من فقهاء الشافعية، وقاله مطرف بن عبادالله بن الشخير من التابعين وابن قتيبة الدينوري، وكل هؤلاء قالوا "يعتمد الحساب الفكلي بشكل كامل في النفي وفي الإثبات.

والرأي الثالث والذي أتوافق معه هو رأي لمجموعة من الفقهاء باعتماد الحساب الفلكي في النفي وليس الإثبات، بمعنى أنه إذا قال الفلكيون أن الهلال لم يولد بعد ولم يتخلف عن الشمس ولا يوجد له منزلة جديدة، ثم جاء شخص وقال إنني رايت الهلال، فالرد عليه أنه لم يولد بحسب الحساب الفلكي.

"الوطن": لو أن مجموعة من الناس أقروا برؤية الهلال بينما اختلف معهم الحساب الفلكي وأكد أن الهلال لم يولد بعد، فأيهم نتبع ولماذا؟

- الهيتي: الحساب الفلكي نسبة الخطأ فيه لا تقترب من 1 الألف، بينما الرؤية دليل ظني، والقاعدة الشرعية تقول إنه يقدم الدليل القطعي على الدليل الظني، واعتقد أن هذا السؤال افتراضي ولم يحدث خلال تجربتي في 4 عقود، وربما يرى أحدهم شيئا يخيل إليه أنه الهلال، ويجب أن تكون الرؤية بعد أن يؤكد الفلكيون ولادة الهلال.

وما أراه في المسألة هنا أن الحساب الفلكي يمكن الاعتماد عليه فقهيا ويمكن الاسترشاد به عند عدم إمكانية رؤية الهلال بالعين المجردة، التي كانت متاحة فقط في عصر النبوة، ولذلك جاء الحديث النبوي باعتمادها، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلفهم باعتماد الحساب أو التقدير في تلك الفترة، وحال الأمة وقتها لا كتابة ولا حساب، لكان ذلك تعسيرا عليهم، ويقول الله تعالى في كتابه الكريم: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، ولذلك فإذا وجدت وسيلة يمكن من خلالها تحقيق الهدف وهو ولادة الشهر الجديد الذي هو الهدف بينما الرؤية تبقى وسيلة.

عملية رؤية الهلال هي عملية جماعية سيادية وليست فردية، حيث كان الناس يرقبون الهلال فوق أسطح المنازل والمساجد بأعداد كبيرة، ويجب على الدولة أن توفر أماكن لتحري الهلال وتدعوا المواطنين لذلك على أن يوجد في كل مرصد متخصص في علم الفلك، يرشد لطريقة التحري والرؤية.

- الناصر: بالفعل هناك مشاكل في قضية الرؤية، وأوضح الفرق بين ولادة الهلال ورؤيته، ففي الولادة تكون الأرض والقمر والشمس على خط واحد، وما يعني أن الزاوية بينهم صفر، وتلك لا ترى بالعين، وتسمى بالكسوف الشمسي، أي أن القمر يغطي قرص الشمس، ومن يرى الكسوف فهو بذلك قد شاهد ولادة الهلال، لكن الكسوف لا يحدث كل شهر.

وفي عام 1990 حين تم رصد الكسوف وتغطية الحدث بصورة كبيرة، حدثت ضجة عالمية، وتم تحديد الولادة بالثواني، وهنا تم أخذه كمعيار بحسب تقويم أم القرى، وكان أول شرط هو اتخاذ مكة المكرمة في الحساب الفلكي كمكان للحسابات الفلكية، والشرط الثاني أن تتم ولادة الهلال ظهرا ورؤيته من خلال الكسوف، ثم يرى الهلال في المساء، والشرط الثالث أن تحدث الولادة قبل غروب الشمس وفي تلك الحالة يجوز الاستهلال لأن الولادة حدثت قبل الغروب بدقائق.

وهنا أشير، إلى التقويم الذي نصدره سنويا من خلال الحسابات الفكلية بمواعيد ولادة الهلال بالثواني، ولكن يقع أحيانا اختلاف في دقيقة أو دقيقتين، وهو ما أحدث خلافا بين الفلكيين، فبعضهم قال إن دقيقة واحدة لا يمكن للعين أن تراها، وآخرين قالوا ربما البعض يستطيع أن يرى الهلال خلال تلك الدقيقة بوسائل خاصة، وحلف بأنه رأى ولادة الهلال، وكان مناط الجدل والخلاف بين الفلكيين بأن الهلال موجود فلكيا لكن لا يستطيع أحد أن يدعي رؤيته ولو بالتلسكوب.

في المملكة المغربية لديهم نظام بالرؤية البصرية يقوم به فريق ويتم الأخذ بما رأوه فقط، بينما في المملكة العربية السعودية، هناك 11 موقعا لرصد الهلال موزعة على مناطق المملكة، يذهب إليها مجموعة من الرائين بالعين، لكن يكون قريبا منهم مجموعة تستخدم تلسكوبات ويتم إبعاد هؤلاء عن الرائين بالعين المجردة منعا للإحراج والجدال، فربما يقول أصحاب التلسكوبات استحالة رؤية الهلال، أو العكس وهنا يحدث بين الفريقين إحراج وهو ما عمدت السعودية لتطبيقه بإبعاد الفريقين عن بعضهما البعض، لأن الفلكيين يؤكدون عدم وجود هلال، بينما يتحرى أهل الرؤية وقد يتراءى لبعضهم رؤية هلال.

وقد يحدث أن يرى أهل منطقة غينيا في إفريقيا الهلال، على الرغم من ولادته فلكيا، ولكن الأمر في النهاية يرجع للقاضي الذي يأخذ برأي من أتوا إليه ليؤكدوا ولادة الهلال من عدمه، وتوجيه أسئلة ذكية للشهود واستنباط الحقيقة، وهو يتطلب أن يكون القاضي ذا خبرة في منازل القمر، ولقد جاء اليهود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليمتحنوه ويسألوه عن الأهلة، ويرد عليهم بنص القرأن "قل هي مواقيت للناس والحج".

"الوطن": حدث من قبل أن لم يُرصد الهلال بصريا أو تلسكوبيا، وتمسك أهل الفلك بأنه موجود، ثم ثبت بعد أن أكمل المسلمون الشهر، أن الهلال ولد وكان يجب أن يفطر الناس بعد 29 يوما.. ما تفسير ذلك؟

- الناصر: بالفعل حدث ذلك وأجريت دراستين في المملكة العربية السعودية، حيث تبين أن حوالي 60% من الرؤية التي أثبتت بداية الشهر والصوم، أن الهلال لم يكن ولد مطلقا.

- الهيتي: هناك رواية من أيام الصحابة، حين روى سريج أنه قال "قدمت الشام يوما واستهل علي هلال رمضان فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس: متى رأيتم الهلال، فأجبت رأيناه ليلة الجمعة، فرد سائلا: أأنت رأيته فأجبت رأيته ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فرد قائلا: لكننا رأيناه ليلة السبت ولا نزال نصومه حتى نكمل ثلاثين أو نرى الهلال، فرددت: ألا تكتفي برؤية معاوية؟ فأجاب بالنفي، وهنا نرصد الاختلاف بين ابن عباس ومعاوية وهو ليس خلافا في الأصول ولكن خلافا في الفروع، ولا يجوز القول بأن من أخذ بالحساب الفلكي هو خارج عن الملة أو أنه مخالف للحكم الشرعي.

"الوطن": لكن ما حكم الشرع فيمن صام 30 يوما بينما كان الشهر 29 والعكس أيضا لمن صاموا 29 يوما بينما الحقيقة أن الشهر مكتمل؟

- الهيتي: كلاهما على حق بنص القرآن: (فاتقوا الله ما استطعتم). ونحن لا نتعبد إلى الله بصيام عدد معين من الأيام، ولكننا نتعبد بتنفيذ الأمر والالتزام، وليس بالليالي والأيام.

"الوطن": لكن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال في نص الحديث "نحن أمة لا نحسب ولا نكتب"، ولا يمكن الحجر على حديث شريف ووضعه في إطار زمني وأقول إنه لا يصلح لهذا الزمان؟

- الهيتي: هذا الحديث واقع حال، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يتحدث عن واقع الحال، يقول ابن القيم رحمه الله "لا بد للمفتي إذا أفتى أن يعلم أمرين، الأول: فهم الواقع والثاني: فهم الواجب بالواقع، فإذا أخل بواحد منهما أخل في فتواه، وإن فقدهما فقدت الفتوى مصداقيتها.

"الوطن": بعض رجال الدين يرفضون تصنيف الأحاديث الشريفة بحسب وقائعها، متخذين نص القرآن الكريم القائل "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى".. هل من توضيح؟

- الهيتي: للعودة إلى النصوص يجب معرفة علتها، وليس كل حكم تعبدي منزوع العلة، فإذا عرفت العلة ارتبط الحكم بالعلة والسبب، وحين توجد العلة يوجد الحكم والعكس صحيح، وما يذكره هؤلاء من غلاة الظاهرية يعتبر تجنيا على الحكم الفقهي، ولا بد من معرفة المقاصد.

وهنا أذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر المسلمين يوم الأحزاب قائلا: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها"، "لا نصلي حتى نأتيها" وقال بعضهم: بل نصلي"، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم.

"الوطن": ماذا عن نص الحديث الشريف نحن أمة لا نكتب ولا نحسب؟

- الهيتي: لمن لا يكتب ولا يحسب فعليه بالرؤية أو إكمال العدة، فإن اتفقت الشروط الثلاثة معا فهذا من فضل الله علينا، وإن كانت الرؤية صعبة لأسباب الغيوم أو الظروف الجوية أو ضوء الشمس أو زمن الولادة، فيجب تفعيل التقدير، ولا يجب أن نضيق واسعا، ومع احترامي لأصحاب الرأي الآخذ بالرؤية فقط، فأنا أعتبر ذلك جمود على النص وقراءة لظاهر النصوص وابتعاد عن المقاصد وعدم ربط الأحكام بعللها ومقاصدها.

"الوطن": أهل الفلك يعترفون بوجود فوارق زمنية بين المناطق، فلماذا لا يتم الالتزام بالنص النبوي بالرؤية فقط، كونه واقعا ملموسا ومؤكدا؟

- الناصر: أنا كعالم فلكي مسلم أريد من خلال علمي خدمة الإسلام، وعندما يضع علماء الفلك حساباتهم، فلا يعني ذلك التدخل في الأمور الشرعية، بل نتركها لأهلها في النهاية هم من يقررون بأي طريقة يتم الإعلان عن ولادة الهلال.

وما ذكره الهيتي، بأن هناك 3 صيغ مستنبطة من الحديث الشريف، والرسول عليه الصلاة والسلام، لم يخير بشيء إلا أخذ أبسطه، وإذا قرر ولي الأمر أو القاضي أن الصوم 29 أو 30 يوما فيجب أن نتبع ولا علينا وزر.

أما عن النص القرآني القائل (وما ينطق عن الهوى) فهو كذلك بالفعل، عندما يتلو القرآن، وليس عندما يتحدث للصحابة أو يشاورهم في الأمر.

كل الجهود في الحسابات الفلكية تهدف لإثبات وجود هلال في الأفق بعد غروب الشمس وبعد ولادته من أجل تجنب عكرة الجو والهباء وأضواء المدينة.. والحساب الفلكي بمثابة عين فلكية ترى الهلال في الأفق مهما كانت عكرة الجو.

"الوطن": فلماذا إذن رصد الهلال والتعليق بأن فريق رآه وفريق لم يره؟

- الناصر: الهلال كان موجودا، وإن لم يحتسب ذلك فمعناه ضاع يوم من الشهر الإسلامي، وأنا على يقين أن الحساب الفلكي سهل للمسلمين أمورا كثيرة ومنها الصلاة؛ فالجميع يصلي دون رؤية الفجر الصادق أو غروب الشمس أو طول الظل عند العصر أو تعامد الشمس على الأرض واليوم يعتمد على الحساب الفلكي في فريضة الصلاة التي تعتبر أعظم من الصوم، ولو صلى المسلم قبل دقيقة من موعد الصلاة لكانت صلاته باطلة.

- الهيتي: يجب أن نفرق بين أمرين وهما أصل العبادة ووسائلها، فلا يجوز الابتداع في أصول العبادات، أما الوسائل فالابتداع فيها واجب.

"الوطن": هناك رجال دين يرفضون الابتداع جملة وتفصيلا في كلا الأمرين السالف ذكرهما، لماذا؟

- الناصر: وكذلك في علماء الفلك من يجادل في كروية الأرض حتى اليوم ولديهم جمعيات تؤكد أن الأرض مسطحة، وهؤلاء متشبثون بآرائهم رغم ثبوت مخالفتها للواقع، مثلهم كمثل رجال الدين المتمسكين حتى اليوم بآراء دينية متشددة.

"الوطن": لا نستطيع أن نلوم رجال الدين لأنهم يخشون الله ويخافون مخالفة أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ولهم مبرراتهم.

- الناصر: حتى نحن حين نضع الجداول، نخشى أن نقع في الخطأ والرصد الفلكي للكون يقل جودة يوما بعد آخر بسبب عوامل كثيرة، من أبرزها الإضاءة الصناعية المتزايدة، وحركة الطيران في السماء، ومخلفات المركبات الفضائية والأقمار الصناعية وكافة التجارب، ومع كل يوم تضعف رؤية الأفق والهلال بالعين المجردة.

وإذا لم نضع المواقيت والجداول السنوية للأشهر والصلوات والغروب والشروق لن نتمكن من حساب التواريخ الهجرية وسننتظر بداية كل شهر حتى نعرف هل بدأ من عدمه، ونلغي فكرة الروزنامات تماما، ولذلك لم يستخدم الناس التاريخ الهجري في التقويم.

"الوطن": السعودية فعلت وتستخدم التاريخ الهجري في جميع أجنداتها

- الناصر: بالفعل استخدموه لأغراض دنيوية وبقيت العبادات على النظام المتبع شرعا، وثبت بعد سنوات طويلة أن بداية الأشهر لم تكن صحيحة فلكيا وأن الرؤية في تلك الفترات مخطئة، بينما لو اعتمدنا الحساب الفلكي لقضي الأمر الذي فيه نستفتي، والقضية ليست عبادة القمر وإنما هو وسيلة لتحديد بداية الشهر.

- الهيتي: قبل 20 عاما كان الظاهريون يرفضون التسبيح بالمسبحة، ويعتمدون فقط الأنامل والحصاة اتباع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أحلوا أخيرا التسبيح بالمسبحة، ورفضوا المسبحة الإلكترونية التي انتشرت في الآونة الأخيرة، وسيأتي عليهم يوم سيجيزونها كما فعلوا مع المسبحة، لأن الأدوات لا تتدخل في عملية تحديد العبادة.

وهناك ما نسبته 70% من رجال الشريعة يعتبرون الحسابات الفلكية مساندة للرؤية ويكمل بعضهما البعض، وهما وسيلتان متى تحققت إحداهما يمكن الأخذ بالمتحققة منها، والـ 30% الذين يرفضون هم فقهاء الحنابلة والإباضية.

يجب التوفيق بين الفقهاء والفلكيين بين الرؤية والحسابات الفلكية لأنها ضرورة لا مفر منها، ومن خلال أن يكون التحري عملية رسمية جماعية وهذا الحمد لله حاصل، والمفترض على القاضي المستقبل للشهادات أن يوجه أسئلة للشاهد للتيقن من رؤيته.

- الناصر: السعودية لا تلزم أي شخص باتباعها، وهي دولة كبيرة لديها مراصدها وعلماؤها وجامعاتها، ولا تفرض رأيها على أحد.

وهناك أمر آخر بالنسبة للرؤية البصرية التي ربما تخطئ عند حدوث ما يسمى السراب القطبي، فقد يظن البعض أن ما يراه هو الهلال بينما هو انعاس خاطئ سببه اختلاف درجات حرارة طبقات الجو.

لدي رسالتان، أتمنى استعمال الحساب الفلكي في النفي، وهذا المتبع، والرسالة الثانية لزملائي الفلكيين المتحمسين للتأكيد على وجود الهلال في وقت معين، بل عليهم فقط التوضيح بأن الهلال موجود في الأفق دون وضع شروط لرؤيته، ويترك الأمر للقاضي الشرعي منعا لتعقيد الأمور الذي شكك رجال الشريعة في ما يذكرونه، والأهم التيسير وسعة الصدر.