^ عكست كل تلك الأرقام حالة الانتعاش التي بدأ ينعم بها اقتصاد النمر الكوري الجنوبي، والتي تحمل في ثناياها كل العوامل المشجعة التي تدفع به نحو الانتقال من حالة الانتظار والترقب، إلى تلك التي تبيح له الرفض والتمرد على القيود التي تحاول أن تكبله بها الاحتكارات الغربية، وتمنعه من الاستفادة القصوى من المكاسب التي تضعها بين يديه تلك الحالة. الملفت للنظر هنا، هو أنه بخلاف النمور الآسيوية، وربما استفادة من سلبيات تجربتها، ينظر الكورويون الجنوبيون نحو المستقبل، دون أن تغفو أعينهم عن الحاضر، ولذا تبنت وزارة المالية هناك خطة موازنة تمكنها من أن “تضع مزيداً من الاحتياطيات في خزائنها كشبكة أمان استعداداً لأية أزمة مالية محتملة، واستعداداً لمجتمع الشيخوخة الذي ينمو في كوريا بشكل متزايد. كما تبنت أيضاً مزيداً من السياسات التي تستجيب للفرص المستقبلية. وستعمل الحكومة أيضاً على إعادة التوازن في المالية والإدارة لخفض العبء عن الأجيال القادمة ورفع مصداقية كوريا في الداخل والخارج”. باختصار، هذا يعني أن الكوريين، لا يولون الحاضر الأهمية التي يستحقها فحسب، بل يخططون من أجل المستقبل الزاهر الذي يحلمون به أيضاً، من خلال حالة التمرد الواضحة في سلوكهم السياسي الذي يحكم علاقاتهم الخارجية، يشجعهم على ذلك التقدم الاقتصادي الذاتي الذي يضفي المزيد من الأهمية على ما يحققه “النمر الكوري الجنوبي”، ويدفعه نحو التمرد من جهة، وتردي الأوضاع الاقتصادية التي تطبق على الاقتصادات الغربية، وفي المقدمة منها الاقتصاد الأمريكي من جهة ثانية. يتضافر كل ذلك، لصالح التمرد الكوري، وعلى نحو موازٍ مناهضٍ لمحاولات التسلط الغربي، فشلت كل الجهود التي تبذلها المؤسسات المالية الدولية، بما فيها صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، من أجل انتشال الاقتصادات الغربية من تلك الأزمة التي تنذر المؤشرات كافة باحتمالات تفاقمها، كمحصلة طبيعية لعوامل التدهور التي لاتزال ممسكة بتلابيب تلك الاقتصادات، وتجرها معها إلى الأسفل. ولو تناولنا أول تلك الاقتصادات وأضخهما وهو الاقتصاد الأمريكي، الذي لاتزال حصته تربو على 25% من الاقتصاد الدولي، لوجدناه وفقاً للتقديرات الرسمية “تراجع نموه (الاقتصاد الأمريكي) في الربع الأول من العام 2012 إلى 2.2 بالمائة من 3 بالمائة في الأرباع الثلاثة الأخيرة من العام 2011”. وأرجعت وزارة التجارة الأمريكية ذلك إلى “مجال الأعمال الذي حد من استثماراته، مما أدى إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي”. وحاول رئيس الخبراء الاقتصاديين في “كابيتال ايكونوميكس” بول اشوورث إبعاد أسباب الأزمة عن تردي أداء الاقتصاد الأمريكي معتبراً أن “السبب الرئيسي في معدلات النمو التي كما كان متوقعاً ترجع إلى الانخفاض في الإنفاق على الدفاع”. وعلى الصعيد الإقليمي، تعاني منطقة اليورو كما يقول المحافظ السابق للمصرف المركزي الألماني، والذي اضطلع بدور مهم في صنع سياسات منطقة اليورو، ارنست فيلتيك، مشاكل جمة “ سببها أزمة الديون في الدول الأوروبية الجنوبية التي نتجت عن الأزمة المالية”، محذراً من أن “التقشف بمفرده ليس حلاً، إذ لا يمكن حل المشاكل دون نمو”، وكأنما لسان حاله يقول إن الأزمة الحالية الملمة بمنطقة اليورو، هي ذات طبيعة بنيوية، ومن ثم، فهي أعقد من حصرها في الجانب المالي فقط، وبالتالي فمن الخطأ معالجتها بالتقشف، مؤكداً “على وجود مشاكل أكثر عمقاً، كانعدام التوازن التجاري، حيث تتمتع بعض الدول بفوائض تجارية كبيرة بينما تبتلى أخرى بعجز كبير”. تؤكد ذلك أيضاً تصريحات وزير التنمية الدولية في الحكومة البريطانية أندرو ميتشيل، التي يعترف فيها بأن “الاتحاد الأوروبي بصدد إصلاح الطريقة التي ينفق فيها المساعدات، بحيث تصبح أكثر شفافية، وتركز على النتائج، وتستهدف الشعوب الأكثر فقراً”. جاءت تلك التصريحات، عقب احتجاج برلمانيين بريطانيين على طرق توزيع المساعدات على الدول الأوروبية، حيث اعتبروا “ أن أكثر من نصف المساعدات التي يجري منحها من ميزانية التنمية الأوروبية تذهب إلى الدول الغنية نسبياً، مثل تركيا وصربيا”. وكما يبدو فإن الإنجليز يحاولون إبعاد شبح الأزمة عن بلادهم، حيث ارتفعت “معدلات التضخم في بريطانيا بشكل غير متوقع في قياس لمؤشر أسعار المستهلك في شهر مارس 2012، وذلك بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية وكلفة الملابس”. وتعاني بريطانيا من تباطؤ اقتصادها “ مدفوعاً بانكماش قطاع الإنشاءات، فيما قد يعتبر مؤشراً على عودة سابع (فقدت المركز السادس لصالح البرازيل) أكبر اقتصاد بالعالم إلى فترة ركود”. ويشكل تعثر الاقتصاد اليوناني، العلامة الفارقة التي تشهد على درجة التردي التي وصل إليها الاقتصاد الأوروبي، وعلى وجه الخصوص منطقة اليورو، عندما قدمت اليونان في العام 2010، “طلباً رسمياً لتفعيل برنامج الإنقاذ الذي يموّله الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي بقيمة حوالي 45 مليار يورو، وذلك بعد تراكم العجز في موازنتها والذي فاق كل التوقعات”. ينبغي أن لا ننسى هنا أن الاقتصاد اليوناني، كان حينها ولايزال، يحمل على أكتافه عبء مديونية قدرها 300 مليار يورو. ولا يخرج الاقتصاد الإسباني عن دائرة الأزمة الأوروبية، بل ربما يعد الشاهد الأكثر وضوحا على وصول الاقتصاد الغربي إلى ما يشبه عنق الزجاجة، فوفقاً لتقديرات كبير الاقتصاديين في بنك (HSBC) ستيفن كينغ تمر إسبانيا اليوم “بدورة مشابهة لما حدث في اليونان وقد بدأت في التطور. فالركود الاقتصادي من العمق بمكان إلى الدرجة التي إذا اتخذت فيها خطوة واحدة إلى الأمام في الإجراءات التقشفية، تأخذك خطوتين إلى الخلف”. وعلى نحو مواز لذلك، أظهرت إحصاءات رسمية إسبانية “ارتفاع معدل البطالة في البلاد ووصوله إلى رقم قياسي جديد”. وقد حذرت أرقام صادرة عن المعهد الوطني الإسباني للإحصاء من “أن عدد العاطلين عن العمل في إسبانيا بلغ 5،639،500 في نهاية شهر مارس 2012، ليصل معدل البطالة في البلاد إلى 24.4% “. وليس أدل على عمق تلك الأزمة في منطقة اليورو، من تصاعد الدعوات، في دول مثل هولندا وفنلندا “للعودة إلى عملتها المحلية القديمة والهروب من شبح تهاوي اقتصاديات دول جنوب أوروبا مما يهدد بانهيار منطقة اليورو وسقوط العملة الشابة التي شقت طريقها وسط الدولار والين والجنيه الاسترليني ببراعة”. وتلخص مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد في ندوة صحافية عقدتها مؤخراً حالة التدهور الاقتصادي الغربي قائلة بواشنطن “إن الانتعاش الاقتصادي لايزال هشاً للغاية، والنظام المالي في أوروبا لايزال يرزح تحت قيود كثيرة، ونسبة الدين لاتزال مرتفعة للغاية، سواء في القطاع العام أو الخاص. البطالة أيضاً لا تزال مرتفعة وهي تضاف إلى قائمة طويلة أخرى من المسائل المهمة مثل ارتفاع أسعار النفط الذي يمثل سحابة جديدة بدت تلوح في الأفق”.