محيط: فنان قدير.. تحدى إعاقته حتى صدحت نغماته في سماء الوطن العربي، وأصبح من أكبر عازفي الأورج ومؤلفي الموسيقى في مصر على الرغم من أنه ولد كفيف البصر.. الفنان الراحل عمار الشريعي، الذي كان يرى بأذنيه كما قال البعض، وقدم أعمالا لن تنسى، سواء في أفلامه أو تترات العديد من مسلسلات روائع الدراما المصرية في تاريخها الذهبي، مثل مسلسل “رأفت الهجان”، “أبو العلا البشري”، “زيزينيا”، “المال والبنون”..... وغيرها من الأعمال التي حفرت طريقها لتبقى في ذاكرة الوطن.
البدايات
ولد عمار علي محمد إبراهيم علي الشريعي في 16 أبريل بمدينة سمالوط التابعة لمحافظة “المنيا”. وهو ينحدر من عائلة “الشريعي” الثرية، التي تمتد أصولها لعائلة “هواره” الشهيرة بالصعيد.. ولد كفيف البصر، وأتى له والده بأحد الشيوخ ليحفظه القرآن بدلاً من أن يلتحق بالكتاب كما يحدث مع أقرانه من المكفوفين في ذلك الوقت لتمهيدهم بأن يكونوا رجال دين.. واستطاع عمار أن يحفظ خمسة أجزاء من القرآن الكريم.
التحق في عام 1953 بمدرسة المركز النموذجي لرعاية وتوجيه المكفوفين التي كانت قد أنشئت حديثاً، وكان متفوقا في دراسته، واشترى والده له بيانو كي ينمي موهبته ويتعلم العزف عليه؛ حيث اتضحت موهبة الشريعي الموسيقية في ذلك الوقت، كما تعلم السباحة وكان سباحاً محترفاً.
وأتقن الشريعي العزف على آلة “الأوكورديون”، وتعلم في وقت مبكر من المرحلة الثانوية العزف على آلة “العود” حتى أتقن العزف عليها هي الأخرى، والتحق بعد ذلك بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة عين شمس، وكتب قصيدة رائعة عن أول أيامه في الجامعة، ثم شارك في النشاط الموسيقي بالجامعة وأصبح من ألمع شخصياتها.
وعمل الشريعي في بدايته مع عدد من الفرق الجامعية التي كانت تعمل في الحفلات العامة والخاصة، ثم عمل كعازف في الملاهي الليلية في الفرق التي تصاحب الراقصات، وفي الفرق الشعبية. وفي بداية السبعينيات التحق بالعمل كعازف على “الأوكوريون” في “الفرقة الذهبية” بقيادة صلاح عرام.
نموذج تحدي الإعاقة
درس التأليف الموسيقي عن طريق مدرسة “هادلي سكول” الأمريكية لتعليم المكفوفين بالمراسلة، كما التحق بالأكاديمية الملكية البريطانية. وتبناه بعد ذلك الموسيقار الكبير كمال الطويل، وتعرف بعدها على الملحن الكبير بليغ حمدي ورأس فريق الموسيقى وعمل مع الكثير من الفرق الموسيقية بعدها.
كانت للصدفة دور كبير في تعلمه وإتقانه العزف على “الأورج”؛ حيث تغيب عن الفرقة عازف آلة “الأورج” في إحدى الحفلات التي كان يعزف فيها مع صلاح عرام؛ فطلب منه عرام إنقاذ الموقف والعزف على “الأورج”، ثم أصبح الشريعي من أبرع عازفي جيله على هذه الآلة التي تعتمد بدرجة كبيرة على الإبصار؛ ولذلك اعتبروه نموذجاً جديداً لتحدى الإعاقة.
أعماله
تجاوز عدد أعماله السينمائية التي وضع الموسيقى التصويرية لها 50 فيلماً، كما تجاوزت أعماله التليفزيونية 150 مسلسلاً، وما يزيد على 20 عملاً إذاعياً، وعشر مسرحيات غنائية استعراضية. كما وضع الشريعي موسيقى وألحان احتفالات أكتوبر منذ عام 1991 م وحتى عام 2003، والتي كانت تقيمها القوات المسلحة المصرية بالتعاون مع وزارة الإعلام. كما قام بعمل موسيقى أغاني احتفالات عيد الطفولة لمدة 12 عاماً متتالية، وشارك في هذه الأعمال مجموعة من كبار الممثلين والمطربين مثل عبدالمنعم مدبولي، نيللي، صفاء أبو السعود. ولحن الحفل الموسيقي الضخم الذي أقامته سلطنة عمان عام 1993 و 2010 م بمناسبة عيدها الوطني، وكان قد سبقه في تلحين أعياد عمان الوطنية العديد من عمالقة الطرب العربي أمثال الموسيقار محمد عبد الوهاب.
أما عن أول لحن له فهو “إمسكوا الخشب”، الذي قدمه عام 1975 بعد أن تخرج من الجامعة بخمس سنوات، وغنته الفنانة مها صبري.
ومارس الشريعي أيضا النقد، وتبنى عدد من المواهب الشابة؛ حيث كون فرقة “الأصدقاء” عام 1980، والتي ضمت الفنانين منى عبد الغني، حنان، وعلاء عبد الخالق. كما اهتم ورعى كل من الفنانين: هدى عمار، آمال ماهر، حسن فؤاد، ريهام عبد الحكيم، مي فاروق، أجفان الأمير، أحمد على الحجار، وسماح سيد الملاح.
المناصب
عين أستاذاً غير متفرغ بأكاديمية الفنون البصرية في عام 1995 م. وتناولت أعماله العديد من الرسائل العلمية لدرجتي الماجستير والدكتوراه في المعاهد والكليات الموسيقية بلغت 7 رسائل ماجستير و3 رسائل دكتوراه من مصر في كلية التربية الموسيقية، جامعة حلوان، كلية التربية النوعية جامعة القاهرة، ومعهد الموسيقى العربية بأكاديمية الفنون، ورسالة دكتوراه من جامعة السوربون بفرنسا.
والشريعي كان عضوا بلجنة الموسيقى بالمجلس الأعلى للثقافة، وضمن لجنة الحكماء التي تم تشكيلها أثناء ثورة 25 يناير عام 2011.
أعمالة الفنية
غنى الشريعي بصوته أغاني فيلم “البريء”؛ حيث غنى أغنية “محبوس يا طير الحق”، و”الدم”. كما غنى رباعيات داخلية من مسلسل “ريا وسكينة”، ورباعيات داخلية بمسلسل “الأيام” لعميد الأدب العربي طه حسين.
الأفلام
من بين الأفلام التي قدم موسيقاها: فيلم “حكاية شاب عمره ألف عام” 2009 ، “حليم” 2006، “ديل السمكة “2003، “لولاكي” 1993، “الشيطانة التي أحبتني1990 ” ، “كتيبة الإعدام” 1989، “أحلام هند وكاميليا” 1988، “ليلة القبض على بكيزة وزغلول” 1988، “العرضحالجي في قضية نصب” 1987، “آه يا بلد آه” 1986، “فقراء ولكن سعداء” 1986، “كراكون في الشارع” 1986، “رمضان فوق البركان” 1985، “لا تسألني من أنا” 1984، “حب في الزنزانة” 1983، و”عضة كلب” 1983.
المسلسلات
أما عن المسلسلات التي قدم ألحانها فمن بينها: “رأفت الهجان” 1987، “أبو العلا البشري” 1996، “نصف ربيع الآخر” 1996، “عفاريت السيالة” 2004، “شمس الأنصاري” 2012، “أخو البنات” 1984، “حلم الجنوبي” 1995، “حارة العوانس” 2006، “ابن ليل” 2012، “وادي الملوك” 2011، “الشهد والدموع” 1983 و1984، “الشوارع الخلفية” 2011، “محمود المصري” 2004، “دموع في عيون وقحة” 1980، “أرابيسك” 1994، “قاسم أمين” 2002، “شيخ العرب همام” 2010، “أميرة في عابدين” 2002، “المال والبنون”، و”الراية البيضا” 1988.
المسرحيات
قدم الشريعي ألحان عدد من الأعمال المسرحية منها: “يمامة بيضا”، “الواد سيد الشغال”، “علشان خاطر عيونك”، “رابعة العدوية”، “الحب في التخشيبة”، “تصبح على خير يا حبة عيني”، “إنها حقا عائلة محترمة”، “لولي”.
أما عن أشهر أعماله الموسيقية مع المطربين، فغنى على ألحانه سفير الأغنية الخليجية الفنان الكبير عبد الله الرويشد، أجمل أغانيه الوطنية والعاطفية: “استحملك” و”مسحور” و”الجرح الأخير” كلمات الشاعر الكبير بدر بو رسلي”، و”لا تصــدق” كلمات الشاعر الكبير ساهر.
برامج في الإذاعة والتلفزيون
وقدم الشريعي وأعد عدد من البرامج هي: “غواص في بحر النغم” وهو برنامج إذاعي لتحليل وتذوق الموسيقى العربية منذ عام 1988، “سهرة شريعي” علىقناة “دريم”، و”مع عمار الشريعي” على راديو مصر، و”المسحراتي” الذي قدم في التلفزيون المصري.
أعمال فنية أخرى
قام بتأليف كونشرتو لآلة العود والأوركسترا ومتتالية على ألحان عربية معروفة وعزفهما مع أوركسترا عمان السيمفونى عام 2005 م، وشارك بالتعاون مع شركة “ياماها” اليابانية في استنباط ثلاثة أرباع التون من الآلات الإلكترونية، وشارك بالتعاون مع شركة “إميولتور” الأمريكية في إنتاج عينات من الآلات تقليدية والشعبية المصرية والعربية.
وابتكر العديد من الإيقاعات والضروب الجديدة، وأعاد صياغة وتوزيع العديد من المقطوعات الموسيقية والأغنيات، وساهم مع مؤسسة “دانسنغ دوتس” الأمريكية في إنتاج برنامج “جود فيل” والذي يقدم نوتة موسيقية بطريقة برايل للمكفوفين.
الجوائز
فاز الشريعي بجائزة مهرجان “فالنسيا”، إسبانيا، عام 1986 عن موسيقى فيلم البريء، جائزة مهرجان “فيفييه”، سويسرا، عام 1989، وحصل على وسام التكريم من الطبقة الأولى من السلطان قابوس بن سعيد، سلطنة عمان، عام 1992، وسام التكريم من الطبقة الأولى من الملك عبد الله بن حسن - ملك المملكة الأردنية الهاشمية.
وحصل على جوائز من الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما، المركز الكاثوليكي للسينما، مهرجان الإذاعة والتليفزيون عن الموسيقى التصويرية من عام 1977 حتى عام 1990، وجائزة الحصان الذهبي لأحسن ملحن في إذاعة الشرق الأوسط لسبعة عشر عاماً متتالية. ونال جائزة الدولة للتفوق في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة، عام 2005.
مواقفه السياسية
حضر الشريعي ثورة 25 يناير التي انطلقت عام 2011، وكان له موقف واضح حيث ذهب للتضامن مع المحتجين في ميدان التحرير.
علاقته بزملاءه
كان عمار الشريعي محل محبة وإعجاب العديد من الذين يعرفونه ومن لم يعرفوه لدماثة خلقه وتسامحه مع القليلين الذين أساءوا إليه، فهو كان يحب أن يحيا في جو من الحب والود حتى بين من يعرفهم ويجلسون معه، ولم ينقطع عن أصدقائه وزملاء الدراسة في المدرسة؛ حيث كان يدعوهم للعشاء مرة كل شهر فيأتون له من أنحاء مصر. وحين كانوا يعبرون له عن شكرهم كان دائماً يقول لو أن أي أحد منهم لو كان في إمكانه لفعل ذلك.
وفاته
أصيب الشريعي بأزمة قلبية نتيجة الإرهاق، وأعلن ظهر الجمعة السابع من ديسمبر 2012 عن وفاته داخل إحدى مستشفيات القاهرة عن عمر 64 عاما جراء أزمة صحية لازمته خلال عامه الأخير؛ حيث كان يعاني من مشاكل في القلب والرئة، وأجرى جراحة “قسطرة” في القلب وجراحة أخرى لإزالة الماء من على الرئة.