العربية.نت


العنوان المرفق ليس من باب المبالغة أو الفرقعة الإعلامية للفت انتباه القارئ، بل هي حقائق تاريخية حدثت فعلا ببلد عربي سمي ببلد المليون ونصف مليون شهيد.. نعم الجزائر.

فقد تجرع الشعب الجزائري على مر الحقب الزمنية الويلات حتى الثمالة، كان آخرها ما عاناه من تقتيل وتنكيل على يد المستعمر الفرنسي طيلة قرن و32 سنة، وإن كان الوجود العثماني الذي سبقه وبقي جاثماً على مدى 3 قرون ليس هيناً، حيث سادت فيه معاملات استبدادية في حق أصحاب الأرض الذين عوملوا كسكان طبقة ثالثة بعد العثمانيين والكراغلة.

ولعل قصة العظام البشرية التي صدرت من الجزائر إلى مرسيليا في بداية الحقبة الاستعمارية الفرنسية كانت من أفظع قصص الطغيان ووحشية المستعمر الفرنسي التي لم يسلط عليها الضوء إعلامياً بالشكل الكافي.


ولاستقاء معلومات أوفر وموثقة عن هذه الواقعة وتلك الحقبة لم تجد العربية.نت أفضل من صاحب الجائزة العالمية للرواية العربية " بوكر" الأخيرة عبد الوهاب عيساوي، والتي تطرق فيها إلى تلك الفترة الزمنية كما عرج في مؤلفه على تجارة العِظام البشريّة في الجزائر آنذاك.

بداية الدردشة الهاتفية مع الروائي الجزائري عبد الوهاب عيساوي كانت عن قصة دخول العثمانيين إلى الجزائر، حيث أكد أنها كانت برغبة سكان الجزائر، وبالتالي تنتفي فكرة الاستعمار بمفهومه التقليدي، ولكنه استطرد وقال إن الحكم العثماني لم يكن جيداً لأنهم استأثروا بحكم البلاد وصار السكان في مرتبة سفلى بعد الكراغلة والأتراك، حتى حكام الجزائر "الدايات" المتعاقبون لم يكونوا بالمستوى المطلوب سياسياً وثقافياً، لأن الكثير منهم جاء إلى سدة الحكم عن طريق انقلاب عن سابقه، وهو ما انعكس سلباً على الأوضاع الاقتصادية والثقافية في الجزائر على مدى 3 قرون.

وأوضح المتحدث أنه لم تكن هناك حركة ثقافية أو علمية تدرس طيلة مدة تواجدهم، بل كان هناك نوع من الاستبداد والمعاملات السيئة ضد الجزائريين، ما دفع أبناء الأرض إلى شن ثورات عدة على العثمانيين على غرار ثورة بن لحرش في الشرق الجزائري وثورة الدرقاوة في الغرب الجزائري.

كما رصد ابن ولاية الجلفة في روايته سلوكيّات الدولة العثمانية في العالم آنذاك، حيث كانت تتمدّد على رقعة واسعة من المعمورة، وتقوم بفرض "الإتاوة" على الحركة في المياه الدوليّة، عبر ما يدعوه الفرنسيّون عصابات البحار. بيد أنها في الوقت ذاته كانت قد بدأت تعاني الشيخوخة بعد قرون من "استعمارها" لدول في المشرق والمغرب، كما أنها، وفق ما أكده الروائي، إمبراطورية تعاني أشكالاً من الفساد، وصُورا من الاضطهاد للشعوب التي تحكمها لكن ما يجعل هذه الشعوب ترضخ لحكم السلطان العثماني الجائر، هو الشراكة في الدين الإسلامي فقط.

وبالعودة إلى قصة تجارة العظام البشرية الشنيعة، شدد الروائي على أن المصادر التي استند إليها في مؤلفه توثق مشاهد الرعب المتمثلة في المتاجرة بالعظام البشرية، التي يستخدمها أصحاب مصانع السكر لتبييضه، وهو ما كشف عنه الصحافي ديبون، برفقة طبيب متخصص، في سفينة قادمة من الجزائر، ونشر تقريره المثير بصحيفة "لوسيمافور دو مرساي"، التي بعثته كمراسل مع حملة غزو الجزائر، حيث وقعت عمليّات نبش القبور للحصول على هذه العظام، جماجم أطفال وسيقان كهول.

فعقب استقرار الفرنسيين وصل إلى ولاية الجزائر عدد كبير من الأجانب المعوزين الذين كانوا يأملون الاستفادة من الوضعية. ومن ضمن هؤلاء المالطيون والمسيحيون الذين طمعوا في كسب عيشهم هناك باعتبارهم الوسائط بين التجار الفرنسيين والشعب المسلم، على أنّ عمليتهم الجريئة كانت ولا شك استغلال القبور، وفق ما أكده الروائي واطلعت عليه العربية.نت من عدة مصادر ووثائق تاريخية.

وقد عرض هؤلاء المالطيون خدماتهم على رجال الصناعة في مرسيليا والذين كانوا يحتاجون إلى فحم العظام لتبييض السكر، وأبدوا استعدادهم لإرسال عظام الحيوانات التي يحتاجونها. ولتستكمل حمولة البواخر بأقل التكاليف، كانوا يجمعون العظام البشرية من المقابر.

وقد سارت الأمور على ذلك النحو إلى أن كشف المستور وأعلمت جريدة لو سيمافور دو مرساي Le Sémaphore de Marseille قراءها في مارس 1833 بهذه التجارة المشؤومة. ولما علم الطبيب سيقو Dr Ségaud بهذا الحادث، قام بتحقيق من تلقاء نفسه في الموضوع. وبعث رسالة للجريدة وفيما يلي جزء مقتضب من فحواها الذي أحدث تأثيرا كبيرا:

لقد علمت عن طريق الإشاعات أن عظاما بشرية استخدمت لصنع الفحم الحيواني Charbon animal، ومدفوعا بشعور العطف على الإنسانية، أردت إقناع نفسي إلى أي درجة يمكن أن نثق في مثل هذه الإشاعات. وقد قمت بزيارة الباخرة المدفعية La bonne Joséphine بقيادة ربانها النقيب بارصولا والقادمة من الجزائر حيث كانت حمولتها من العظام. وبعد أن قمت بفحص دقيق جداً لكمية العظام الموجودة تعرفت إلى بعض منها، ثبت لدي أنّه من النوع البشري. وقد شاهدت عددا من الجماجم والسواعد وعظام الفخذ التابعة للمراهقين الذين دفنوا مؤخرا ولم تكن خالية تماما من اللحم. وكان يجب ألا يتساهل في مثل هذه العمليات، كما أن واجب السلطات المسؤولة منع الاستمرار في تجارة رفات الإنسان والتي يمكن أن تضمّ رفات زعماء فرنسيين وإفريقيين على حد سواء..".

هذه الواقعة أكدها أيضا في وقت سابق عبد المجيد شيخي مستشار الرئيس الجزائري لشؤون الذاكرة (الفترة الاستعمارية) في مقابلة مع وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، حيث قال إن فرنسا نقلت خلال فترة استعمارها للجزائر عظام مقاومين جزائريين إلى أراضيها "لاستعمالها في صناعة الصابون والسكر".

وأضاف شيخي وهو مؤرخ كلفه الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون بالتفاوض مع الجانب الفرنسي حول ملفات الفترة الاستعمارية (1830/1962)، أنه "بعد ارتكاب فرنسا لمجازرها بالجزائر، حولت الكثير من عظام الجزائريين الذين تم قتلهم إلى مرسيليا لاستخدامها في صناعة الصابون وتصفية السكر".

وأردف أن الاستعمار "جعل الجزائر حقل تجارب حقيقياً للممارسات الوحشية التي طبقها فيما بعد في المستعمرات الأخرى، خاصة الإفريقية منها، والتي عانت من تجارة الرق التي تورطت فيها شخصيات مرموقة في المجتمع الفرنسي وهي كلها أساليب موثقة في الأرشيف".

وبالرجوع إلى رواية عبد الوهاب عيساوي وبصرف النظر عن افتكاكها الجائزة الأولى في القائمة القصيرة لـ"البوكر العربية"، تكمن قوتها واستحقاقها التقدير، وفق ما أكده العديد من أهل الاختصاص والنقاد واطلعت عليه العربية.نت، في جمعها بين المادة التاريخية المعروفة تقريبا، من تاريخ الجزائر، وبين لمسة تخييلية مشبعة بالتفاصيل والمشاهد الإنسانية التي تنتمي إلى أي واقع إنساني، عابر للتاريخ في رسالة بأبعاد ثقافية وسياسية واقتصادية وكذا اجتماعية.

وتزدحم خمس شخصيات في حيز زمني لا يتجازو العقدين ما بين 1815 و1833، في مدينة المحروسة "الجزائر". أولها الصحافي ديبون الذي جاء في ركاب الحملة على الجزائر كمراسل صحافي، وكافيار الذي كان جنديا في جيش نابليون ليجد نفسه أسيرا في الجزائر، ثم مخططا للحملة، إضافة إلى ثلاث شخصيات جزائرية تتباين مواقفها من الوجود العثماني في الجزائر، وكما تختلف في طريقة التعامل مع الفرنسيين، يميل ابن ميار إلى السياسة كوسيلة لبناء العلاقات مع بني عثمان، وحتى الفرنسيين، بينما لحمّة السلّاوي وجهة نظر أخرى، الثورة هي الوسيلة الوحيدة للتغيير.

أما الشخصية الخامسة فهي دوجة، المعلقة بين كل هؤلاء، تنظر إلى تحولات المحروسة ولكنها لا تستطيع إلا أن تكون جزءا منها، مرغمة لأنه من يعيش في المحروسة ليس عليه إلا أن يسير وفق شروطها أو عليه الرحيل.

وبنى عيساوي روايته الكبيرة نسبباً في (384 صفحة)، يبحر بالقارئ في عوالم أبطالها المتداخلة، عوالم تنطوي على صراعات بين الشخصيّات لتحقيق الذات، وصراعات أكبر بين القوى الباحثة عن الهيمنة والسلطة والمال. هي عوالم الرعب والعنف والدم والجثث والعداوة والكراهية من جانب، بقدر ما تنطوي على قدر من الحب والفرح من جانب آخر. كل ذلك بأسلوب سردي لافت وتصوير دقيق لأصغر التفاصيل، وبلغة رفيعة تجنح إلى قدر من الشعرية المفارقة وغير المألوفة أحيانا.

وقد سلط الروائي الذي شارك في العام 2016، في "ندوة" الجائزة العالمية للرواية العربية (ورشة إبداع للكتاب الشباب الموهوبين)، سلط الضوء من خلال استخدام مادة تاريخية للفترة ما بين 1815 و1833، أي الفترة التي أعقبت هزيمة نابليون في معركة واترلو الشهيرة، وبين مرور ثلاث سنوات على غزو فرنسا للجزائر واحتلالها، وكانت الحادثة التاريخية الأبرز في الرواية، والتي يستند الفرنسيون إليها في تبريرهم للغزو، هي حادثة "المروحة"، التي "صفع " بها الداي حسين العثماني قنصل فرنسا في الجزائر، بسبب ما اعتبره "وقاحة" في رد القنصل دوفال عليه، حين سأله عن عدم تجاوب الملك الفرنسي مع رسائله بشأن دَين لتركيا على فرنسا، فجاء ردّ القنصل بما معناه أن الملك ليس لديه الوقت للرد على "أمثال" الداي، فثارت ثائرة الداي ورماهُ بالمروحة، فيما تقول روايات أخرى إنه أشار إليه بها.

وقد رفض الداي الاعتذار عمّا اعتبرته فرنسا إهانة لها في شخص قنصلها، فحشدت أساطيلها وقادتها العسكريين وقامت بحملتها "لتخلّص الجزائر من الاضطهاد العثماني"، بحسب تبريراتها.

يشار إلى أن الرواية جاءت في خمسة أقسام، في كل قسم خمسة فصول، فصل لكل شخصية، ونترك لكم فرصة قراءة الرواية التي نالت إعجاب وإثراء أهل الاختصاص مكنها من حصد أحد أهم الجوائز الأدبية لصاحبها الروائي الجزائري عبد الوهاب عيساوي من مواليد 1985 بالجلفة، والذي تخرج في جامعة زيّان عاشور، ولاية الجلفة، مهندس دولة الكتروميكانيك ويعمل كمهندس صيانة.

وفي جعبته جوائز عدة حيث فازت روايته الأولى "سينما جاكوب" بالجائزة الأولى للرواية في مسابقة رئيس الجمهورية عام 2012، وفي العام 2015، حصل على جائزة آسيا جبار للرواية التي تعتبر أكبر جائزة للرواية في الجزائر، عن رواية "سييرا دي مويرتي"، أبطالها من الشيوعيين الإسبان الذين خسروا الحرب الأهلية وسيقوا إلى معتقلات في شمال إفريقيا.