يخطو في بداية حياته خطوات ثابتة نحو تأسيس نفسه وصقل شخصيته والارتماء في أحضان أسرته التي يحبها ويعشق جمالها. يخطو خطوات ينمي ذاته ويتأقلم مع البيئة التي يعيشها ومع العالم كله، ويحاول أن يكون قدوة تحتذى في جميع أفعاله وأقواله، وبناءً متحركاً ينشر الخير وخير سند لوالديه أولاً ولأسرته وكل من يحبه. كل واحد منا نشأ وهو يحدث نفسه بهذه الكلمات، وهو يستلهم قوته قبل كل شيء من علاقته بربه ثم بأسرته ووالديه على وجه الخصوص، كل واحد انطلق في الحياة بقوة واعتزاز بعد أن اشتد عوده وساعده بفضل من الله عز وجل أولاً وأخيراً، ثم بفضل تلك السواعد الحانية التي ربته وتعبت عليه وسهرت الليالي من أجله وكافحت وكابدت كثيراً في أيام الحياة. الأم الرؤوم والأب الحاني المكافح.. فقد شيدا بنياناً جميلاً على أمل أن يكون أجمل وأسعد بنيان في الحياة يتحرك في الخير وينشر العطاء بكافة أشكاله ومعانيه.

فقد آن الأوان أن يرفع رأسه شامخاً واثقاً يضع اسم والديه وساماً على صدره، وتبدأ محطة جديدة من حياته شعاره فيها «سنداً لمن رباني يوم أن كنت صغيراً»، وبدعاء رقيق يخطه بيمينه: «وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً». آن الأوان لكي يرد الوفاء لأحن القلوب، وهو الوفاء المعنوي واللطيف في تلك الكلمات التي ينطق بها في كل لقاء يجمعه بوالديه، وبقبلات حانية على جبينهما وأقدامهما، وبالاستمتاع بحضنهما الدافئ الذي سيظل كذلك مهما كبر وبلغ من العمر، آن الأوان ليستذكر ذلك الجهد والتعب الذي بذلته أمه وهي تحمله في بطنها تسعة أشهر «ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن» أي ضعفاً على ضعف، ثم تلك المكابدة التي ضحى فيها الوالد الحنون في حياته وهو يعمل ويجد من أجل تأسيس أسرة صالحة ينفق فيها على أبناء بررة يفخر بهم في صغرهم وبعد كبرهم. فهل يقابل كل ذلك الجهد وذلك التعب والخوف المستمر بالجحود والنكران والعقوق وبالكلمات اللاذعة والهجران! مر ابن عمر رضي الله عنهما برجل من أهل اليمن، وقد حمل أمه على كتفيه في حرارة شمس مكة، وهو يطوف بها، وقد سال العرق على جبينه في الظهيرة، فقال: «يا ابن عمر! أسألك بالله، أجازيتُ أمي بما قدمت لي؟ قال ابن عمر: لا والذي نفسي بيده ولا بزفرة من زفراتها». وورد عن ابن الهداج قال: قلت لسعيد بن المسيب: كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته، إلا قوله: «وقل لهما قولاً كريماً»، ما هذا (القول الكريم)؟ فقال ابن المسيب: «قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ»، وكان زيد العابدين كثير البر بأمه، حتى قيل له: «إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟»، فرد عليهم: «أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها؛ فأكون قد عققتها».

في المقابل فإن للوالدين أحلاماً كثيرة رسماها على صفحات حياتهما في بداية الزوجية، بتأسيس جيل (سنع) يفهم معنى الحياة، جيل يتعامل مع الحياة بمنطقية وواقعية، يعتمد على نفسه، بذلا كثيراً من أجل تربية أسرتهما على الحب والعطاء، وعلى معاني الخير، وعلى الاحترام والتقدير المتبادل، وعلى المثل الإسلامية العليا، وعلى مراقبة الله عز وجل في السر والعلن، وأجمل حلم في حياتهما أن يكوّنا مع أبنائهم أسرة جميلة تسعد العالم وتنشر الخير وتساعد المحتاجين، وأن ينعما ببر فلذات كبدهما وهم في حال الكبر والضعف والوهن.. حينها أجمل ما يتمنون: (حنية القلب والكلام العذب والحضن الدافئ).. فهما يحلمان بالدفء مهما تقدمت بهما سنوات الحياة.

* ومضة أمل:

أجمل ما في حياتك أسرتك الجميلة التي علمتك الكثير.