الحرة

لم يتخيل عبد الغني للحظة أن يكون مضطرا في يوم من الأيام إلى بيع الأرض التي ورثها عن أبيه وجده في ريف محافظة حمص السورية. الأرض، بحسب وصفه، كـ"العرض"، "لا تباع ولا تشترى".

تلك القاعدة يبدو أنها تتلاشى شيئا فشيئا مع وصول جانب كبير من الأسر السورية إلى حد الفقر بعد 10 سنوات من الحرب، وما خلفته من آثار مدمرة على كافة المستويات، وهو واقع يؤكد عليه الرجل الخمسيني في حديث مع موقع "الحرة" بالقول: "خيار البيع كان الوحيد أمامي لأتمكن من تأمين احتياجات أسرتي اليومية من خبز وسكر وزيت وما إلى ذلك".

باع عبد الغني الدونم الواحد من أرضه، التي تبلغ مساحتها 35 دونما، بمليون ونصف ليرة سورية (450 دولار أميركي تقريبا)، رغم أنه يساوي أكثر من ذلك بحسب سوق العقارات العام، إلا أنه لم يجد "رقما أكبر"، وفق تعبيره.

يقول عبد الغني، شرط عدم ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية "منذ عامين فُرضت معادلة واحدة على سوق العقارات سواء في بيع وشراء الأراضي أو المنازل. البائع من الطبقة الفقيرة جدا والمشتري من كبار الأثرياء. لا يوجد أي تاجر في الوسط".

ويؤكد أن حركة بيع وشراء العقارات في المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة النظام السوري وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، مرجعا الأمر إلى انعدام أي خيار آخر أمام الأهالي للبقاء على قيد الحياة.

في مطلع يوليو الماضي ذكر "برنامج الأغذية العالمي" التابع للجمعية العامة للأمم المتحدة أن نحو 90 بالمئة من العائلات السورية تتبع استراتيجيات وأساليب تأقلم "سلبية" للبقاء على قيد الحياة.

وأوضح البرنامج أن السوريين يلجؤون لتقليل كمية الطعام الذي يتناولونه، بالإضافة إلى شراء كميات قليلة مما يحتاجون إليه، لافتا إلى اتباع السوريين أسلوب "الاستدانة"، أي الاقتراض لشراء حاجاتهم الأساسية.



من هم "الأثرياء"؟

إلى العاصمة السورية دمشق لا يختلف الأمر كثيرا عن وسط البلاد، حيث تنشط حركة غير مسبوقة في سوق العقارات أيضا، خاصة في المناطق التجارية والمناطق الواقعة في الريف الشرقي (الغوطة الشرقية).

ولا تقتصر الجهة التي تشتري على فئة دون غيرها، بحسب ما يقول باسل، وهو صحفي مهتم بالمجال الاقتصادي في دمشق، مشيرا إلى أنها تشمل التجار الكبار من أبناء العاصمة، والمغتربين في الخارج، والتجار المعروفين بقربهم من النظام السوري الذين بات يطلق عليهم اسم "أمراء الحرب".

ويرجع الصحفي أسباب توجه الأسر السورية إلى البيع، إلى حالة الفقر الشديد التي انحدرت إليها، على خلفية التدهور المستمر في سعر صرف الليرة السورية، وما تبع ذلك من تضاعف أسعار المحروقات والمواد التموينية.

ويقول باسل في تصريحات لموقع "الحرة": "الحالة المعيشية لمعظم الأهالي وصلت إلى الصفر. الراتب الشهري لا يكفي لشراء احتياجات 3 أيام فقط. هناك عائلات توجهت إلى بيع منازلها في دمشق لصالح الاستئجار. والمستفيد طرف واحد".

من جانبه يشير بسام، وهو شاب يقيم في دمشق ويعمل في محل عقاري، إلى أن السنوات العشر الماضية لم تشهد حركة بسوق العقارات مثل الوقت الحالي، مشيرا إلى أن: "معظم البائعين يقولون إنهم اضطروا وأجبروا على ذلك".

ويضيف بسام في حديث لموقع "الحرة": "الأسعار دون المأمول منها، خاصة أن عمليات البيع والشراء تتم بالليرة السورية بعيدا عن أي تعامل بالدولار، وهو ما يستغله التجار الكبار الذين يستفيدون من سعر الصرف في كلا الحالتين".

وبينما تغيب أي إحصائيات رسمية عن حجم عمليات البيع والشراء في المحافظات السورية، كان وزير المالية في حكومة النظام، كنان ياغي، أعلن في يونيو الماضي أن عدد العقارات التي تم بيعها في أقل من شهر تجاوزت حاجز 1850 عقارا، بقيمة 215 مليار ليرة.

وجاء حديثه حينها في معرض الدفاع عن الانتقادات موجهة لـ"قانون البيوع العقارية"، الذي أصدره رئيس النظام بشار الأسد، هذا العام، من قبيل تسبب القانون بكساد وشلل عقاري، نتيجة الضرائب الكبيرة التي تستند إلى قيمة العقار الحقيقية.



"خيار وحيد أمام التجار"

وعبر موقع التواصل "فيسبوك" تنشط منذ سنوات صفحات عدة ومجموعات خاصة في عمليات بيع وشراء الأراضي والمنازل، في مختلف المحافظات السورية، يديرها في الغالب أصحاب مكاتب عقارية وأشخاص وسطاء بين البائع والمشتري.

صفحة "سوق دمشق العقاري" تعرض بشكل يومي إعلانات لمنازل وأراضي زراعية يريد أصحابها بيعها، في داخل دمشق أو في محيطها مثل مشروع دمر ومعربا، وطريق المطار.

وتتفاوت الأسعار من حي إلى آخر وبحسب المنطقة وغيرها، وبالمجمل يتجاوز أسعار المنزل المتواضع مبلغ 400 مليون ليرة سورية.

الاستشاري الاقتصادي، يونس الكريم يقول في تصريحات لموقع "الحرة" إن "حركة بيع وشراء العقارات ليست كما هي ظاهرة على العيان".

ويضيف الكريم: "التجار باتوا يخافون على أموالهم من التضييق الداخلي والخارجي، إذ باتت عملية إخراج الأموال صعبة، وبالتالي ليس هناك خيار للحفاظ عليها، إلا بسوق العقارات".

ويرى الاستشاري الاقتصادي أن التجار في سوريا يريدون ضمان أموالهم، من ناحية، لذلك يتجهون لشراء العقارات من أصحاب الطبقة الفقيرة.

ومن الناحية الأخرى، يتابع الكريم: "العقارات تشكل فرصة ذهبية لأي مستثمر. هناك مخططات تنظيمية لن تتغير سواء مع وصول أي حكومة جديدة في المستقبل إلى سوريا، أو في حال بقاء الحكومة الحالية. بذلك العقارات تعتبر فرصة استثمارية كبيرة في المرحلة التي ستقبل عليها سوريا".

ويؤكد الكريم أن سبب البيع هو "انهيار القدرة الشرائية للعديد من الأسر السورية، إذ تجبر على بيع عقاراتها بأسعار لا تناسب القيمة الفعلية والحقيقية"، مشيرا: "هناك أراضٍ يبلغ سعر المتر الواحد منها بين 1000 و1200 دولار لكنها بيعت بأقل من نصف ذلك".



"صندوق أسود"

وتشير المعطيات المفروضة في الوقت الحالي بسوريا إلى أنه "لا حل قريبا في الأفق"، من حيث الحالة الاقتصادية لمعظم السكان أو الحالة السياسية العامة للبلاد، التي وصلت إلى طريق مسدود منذ أكثر من 3 أشهر.

وأسفر تدهور الأوضاع السورية المستمر منذ 10 سنوات عن أزمات عميقة، يرى محللون اقتصاديون أن حلها سيكون صعبا على المستوى القريب، خاصة تلك المتعلقة بالتركيبة الطبقية للسكان، ما بين فقير، وغني، ومتوسط الحال.

وفي وقت سابق، أي قبل عام 2011، كان هناك ما يسمى بـ"الطبقة الوسطى" التي يعرف أصحابها بأنهم ليسوا فقراء أو أغنياء. أما اليوم فلم يعد لها أي وجود، بحسب الاستشاري الاقتصادي، يونس الكريم.

ويرى الكريم أن عملية شراء العقارات يمكن تقسيمها على أطراف عدة: المغتربون في بلدان اللجوء، وهؤلاء "حققوا وفرا ماليا ويحاولون الآن شراء العقارات كي تكون مقدمات جاهزة لهم في حال التفكير بالعودة".

أما الطرف الآخر فهم "أمراء الحرب"، ويوضح الكريم أن "هذه الفئة تحاول شرعنة أموالها في سوق العقارات، لأن الأراضي والمنازل أكثر الطرق أمانا بعيدا عن أي عقوبات دولية أو تضييقات داخلية من قبل حكومة الأسد والمقربين منها".

ويتابع الاستشاري الاقتصادي: "ما بين الخوف من النظام، وعدم القدرة على إخراج الأموال، وتحسبا لأي تغيير سياسي يلجأ أمراء الحرب إلى العقارات ليضعوا أموالهم في مأمن. العقارات يمكن اعتبارها صندوق أسود لأمراء الحرب".

ولكن، وفي المقابل، هناك توجه لعدد من السوريين في الخارج لشراء عقارات من منازل وأراض وغيرها داخل بلادهم، إذ يرون أسعارها "زهيدة" مقارنة بسعر صرف الليرة السورية أمام العملات الأجنبية.

ما سبق يؤكد عليه خالد، مغترب سوري منذ 25 عاما، ويقول من مكان إقامته في ألمانيا في تصريحات لموقع "الحرة" إنه اشترى أكثر من 200 دونم خلال العامين الماضيين، وذلك في مناطق متفرقة في محافظة حمص وسط البلاد.

ويضيف: "أرى للاستثمار بالعقارات في سوريا في الوقت الحالي فائدة أكبر من أي شيء آخر. البيع والشراء بالليرة السورية وهذا ما يساعدنا ويدفعنا أكثر. سعر الدونم الواحد بأقصى حالاته لا يتجاوز مليوني ليرة سورية، أي 600 دولار!"!

ويجري المتحدث ذاته عمليات الشراء بشكل رسمي وقانوني، عن طريق أحد أقربائه الموجودين داخل البلاد، ويتابع: "وكلّته بإتمام عمليات الشراء بشكل كامل وتسجيل الأراضي التي اشتريها باسمي في السجلات العقارية".