قانون تنظيم انتخابات مجلس الشورى القطري، الذي صدر منذ أيام قليلة، أثار جدلا داخليا كبيرا حول استثنائه قسما واسعا من الشعب من حق الترشح أو الانتخاب، لكن الأعمق من الاحتدام الداخلي أن القانون كشف عورات السياسة القطرية، وعرى الازدواجية التي تمارسها الدوحة، بين سلوك سياسي داخلي منغلق، مقابل عبث كبير في الخرائط العربية بدعوى نصرة الديمقراطية وحقوق الإنسان. القانون المشار إليه أثبت أيضا أن قناة الجزيرة، الواجهة الإعلامية للسياسة القطرية، لا تنظر إلا إلى الخارج وتصاب بالعمى حين يتعلق الأمر بأحداث داخلية تفضح توجهات البلاد الرسمية.

أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني صادق على قانون انتخابي ينظم أول انتخابات تشريعية في البلاد، ويقضي القانون بتحديد الدوائر الانتخابية لمجلس الشورى ومناطق كل منها بحيث يُنتخب عضو واحد عن كل دائرة. وسيجري التصويت لاختيار 30 عضوا من أعضاء مجلس الشورى والمؤلف من 45 مقعدا في حين يعين الأمير بقية الأعضاء، ومن المقرر أن تُجرى الانتخابات في شهر أكتوبر المقبل. قانون الانتخاب المثير للجدل قسّمَ في بنده السادس المواطنين القطريين إلى درجات ثلاث: درجة أولى القطريون الأصليون ويحق لهم الترشح والانتخاب. درجة ثانية قطريون مجنسون ولدوا في قطر وجدهم قطري ويحق لهم الانتخاب دون أن يكون لهم الحق في الترشح إلى عضوية مجلس الشورى. ودرجة ثالثة المجنسون الذين لا يحق لهم الترشح ولا الانتخاب.

القانون يطرح مآزق قانونية وسياسية واجتماعية متداخلة. وصدر في توقيت سياسي دقيق موسوم بمحاولات قطرية حثيثة لتجميل صورتها قبل نحو عام من استضافة قطر لكأس العالم لكرة القدم، وهو محفل استنفرت الدوحة كل قواها الدعائية والسياسية والمالية من أجل الفوز بتنظيمه. والانتخابات التشريعية الأولى المزمع تنظيمها في أكتوبر المقبل تروج لها قطر على أنها «أكبر خطوة إصلاح في تاريخ البلاد». ومع ذلك فإن قطر فصلت في هذا القانون الجديد بين «الجنسية» و»المواطنة»، وهو فصل فريد من نوعه يشي بوجود ترسبات مجتمعية وسياسية عميقة وخطيرة تمنع صاحب الجنسية القطرية من ممارسة حقوقه السياسية وتقصر جنسيته على ما تعنيه من واجبات. وفي عمق هذا الفصل بين الجنسية والمواطنة يختفي تعريف ملتبس للمفهومين، أي المواطنة والجنسية.

الفصل بين المواطنة والجنسية ليس وليد اللحظة السياسية الراهنة، ولم يظهر فقط مع هذا القانون ولو أن القانون الأخير كرسه وأضفى عليه طابعا سياسيا، ذلك أن قانون الجنسية القطري الصادر عام 1961 يعطي القطري المتجنس حق الانتخاب أو الترشيح بعد انقضاء عشر سنوات من حصوله على الجنسية، وجاء قانون الجنسية الصادر عام 2005 وألغى تلك المادة دون وضع سقف زمني أمام القطري المتجنس للحصول على حقوقه السياسية.

بهذا المعنى يمكن أن يكون الطبيب أو المهندس أو الطيار أو الأستاذ الجامعي أو الرياضي حاصلا على الجنسية القطرية، ويضع خبراته وقدراته ومهاراته لصالح المجتمع القطري دون أن ينال في مقابل ذلك حقوقه السياسية والاجتماعية.

أقصى القانون الجديد مجموعات كبيرة من الشعب القطري من ممارسة حق الانتخاب أو حق الترشح، لأن حق الانتخاب- حسب القانون الجديد- يمنح لمن ولد جدّه في قطر واكتسب الجنسية قبل عام 1930. وكان من نتائج هذا القانون أن حرمت أفراد قبيلة آل مرة، إحدى أكبر القبائل القطرية، من حق الترشح إلى الانتخابات، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات وتجمعات غاضبة. كانت احتجاجات قبيلة آل مرة صرخة غاضبة ضد تعريف المواطنة، وقصرها على فئة محددة، مقربة في الغالب من رأس النظام القطري، لأن حرمان آل مرة من الترشح لانتخابات مجلس الشورى، يخفي أشكالا أوسع من الحرمان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ويعكس تقسيم المواطنين إلى درجات غير متساوية في الحقوق والواجبات، ما يمثل تناقضا خطيرا مع كل المبادئ الكونية لحقوق الإنسان. مفيد الإشارة هنا إلى أن السلطات القطرية كانت قد سحبت في العام 2017 الجنسية من أفراد من قبيلة آل مرة ومن بينهم طالب بن شريم، شيخ القبيلة، لأنه رفض طلب قطر سب المملكة وقيادتها وملك البحرين وحكومته.

البعد الآخر لهذا «الحدث» القطري، هو أن هذه القوانين والمراسيم العنصرية تتناقضُ مع ما تدعيه قطر من «نصرة للديمقراطية ولحقوق الإنسان» في أكثر من قطر عربي. شاركت قطر بفعالية، مدججة بمنصة إعلامية ضخمة وبحقائب مالية سخية، في إسقاط الأنظمة في تونس ومصر وليبيا وسوريا، وبغض النظر عن الموقف من استبداد هذه الأنظمة فإن الحماس القطري لنشر الديمقراطية في هذه الأقطار وغيرها يقتضي منها أن تحترم الحد الأدنى من الديمقراطية، وهو ما لا يتوفر ولم يتوفر في التجربة السياسية القطرية المعاصرة، وبذلك فإن الدوحة بافتقادها للانسجام بين سياستها الخارجية وسلوكها الداخلي، هي مثل من بيته من زجاج ويرمي الناس بالحجارة.

في هذا الصدد من غياب الانسجام أدارت قناة الجزيرة، المعروفة بهرولتها نحو أي حدث صغير يحصل في أي قطر عربي، ظهرها للحدث والخبر ومعانيه ونتائجه ومآلاته. الجزيرة مباشر كانت تنقل مظاهرة لعشرات العناصر الإخوانية في قرية صغيرة في صعيد مصر، وكانت تعرض مباشرة مشاهد لاعتصام تنظمه عناصر إخوانية أمام مبنى التلفزيون التونسي، تغاضت عن الحديث عما أحدثه القانون الجديد والمراسيم الأميرية من مظاهر احتجاج، واكتفى موقع القناة بعرض نصوص مرتابة تتناول القانون من زاوية كونه نقلة سياسية مهمة ولبنة أولى في درب الإصلاح، ولم تغب نظرية المؤامرة والتعريض بالأعداء عن سياسة الموقع حيث نشر موقع الجزيرة يوم العاشر من الشهر الجاري تقريرا حمل عنوان «انتخابات مجلس الشورى في قطر.. تفاعل بين المواطنين والإمارات تدخل على الخط»، ترك المتن وتجول في الهوامش ولم ينجح في ليّ عنق الحقيقة بل إنه قدم رواية ضعيفة وخالية من الواجهة لما حصل في قطر.

أعلنت وكالة الأنباء القطرية أن الجهات المختصة في وزارة الداخلية أحالت سبعة أشخاص إلى النيابة العامة بعد قيامهم باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي في نشر أخبار غير صحيحة وإثارة ما وصفتها بـ»النعرات العنصرية» والقبلية بما يعني أن السلطات القطرية أسبغت تهمة العنصرية على من نددوا بعنصرية القانون. ولعل تواتر الحديث عن إمكانية مراجعة الأمير للقانون المثير للجدل، لن يخفي العقل السياسي القروسطي الذي يقف وراء صياغة هذا القانون، ولن يبدد معالم التناقض القطري، ولا الازدواجية التي تمارسها الواجهة الإعلامية القطرية، لأن المسألة أعمق من خلل إجرائي في صياغة نص قانوني، ولا يعكس تفاعل سلطة مع رفض واسع لقانون أو مرسوم، بل إن هذا القانون يمثل الشجرة التي تخفي غابة العوار السياسي القطري، الذي لا يرى ضيرا في تقديم الدروس عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير، وهي مبادئ يفترض بمن يدعيها ويزعم الذود عن قيمها أن يبدأ بتطبيقها في بيته.

قانون تنظيم انتخابات مجلس الشورى القطري هو قطر مختصرة، وما حصل للعمالة الوافدة في ورشات بناء ملاعب كرة القدم هي أيضا قطر الحقيقية، وإغماض الجزيرة عينها عن الداخل القطري هي حقيقة قطرية، ومحاكمة الشاعر محمد بن راشد العجمي الملقب بابن الذيب، بتهمة التحريض على نظام الحكم في قصيدة هي حرية التعبير حسب العرف القطري. وكل هذه المظاهر وغيرها لن يبددها تنظيم قطر لكأس العالم، ولا تنظيم انتخابات شكلية يقصى من المشاركة فيها فئات واسعة من الشعب القطري، لأن الانسداد والانغلاق قاعدة في قطر، وحقوق الإنسان والديمقراطية وحرية التعبير استثناءات تمارس في سياق الادعاء والضحك على البسطاء.

نقلاً عن موقع إيلاف