^ في الربع الأخير من القرن العشرين برزت على خارطة الاقتصاد العالمي ما عرف بظاهرة “النمور الآسيوية”، والتي شكلت نموذجاً اقتصادياً ناجحاً حاول حينها الكثير من البلدان النامية استنساخه، مثل بعض الدول العربية بشكل غبي ففشل، ونجح آخرون في فهمه بطريقة إبداعية مثل بعض دول أمريكا اللاتينية فتفوق. بالقدر ذاته شكل ذلك النجاح تحدياً للنموذج الغربي في مفاهيم التنمية، وعلى وجه الخصوص التقليدية منها، وبالقدر ذاته تهديداً للسيطرة الاقتصادية التي كانت تمارسها الاحتكارات الغربية الناهبة لثروات البلدان الفقيرة. تكالبت على ذلك النموذج المتقدم فئتان؛ من شكل تحدياً لها ومن هدد نفوذها، ونجحتا من خلال تحالف قادته واشنطن إلى إلحاق هزيمة اقتصادية عصفت بذلك النموذج، وأدخلت دوله في دوامة تعقيدات مالية انتهت بهزيمة تلك النمور بعد أن خارت قواها. وقد تعددت الاجتهادات التي حاولت تفسير الأزمة وفهمها، ومن ثم وضع أصابعها على الأسباب التي كمنت وراءها، بدءاً من “فشل السلطات العامة في تقليل الضغوط التضخمية الجامحة والمتجسدة بحالات العجز الخارجي الواسع واضطراب أسواق المال، مروراً بضعف الإشراف والرقابة الحكومية، وبالتالي تصاعد الشكوك السياسية حول التزامات الحكومة ومدى مقدرتها على إجراء الإصلاحات المناسبة لمواجهه الأزمة، انتهاءً بالانخفاض في قيمة الدولار الأمريكي ودخوله في منافسة العملات الآسيوية التي ترتبط به بشكل أو بآخر، ثم إلى تضاءل درجة منافسة الدول الآسيوية في الأسواق العالمية، وصولاً إلى دخول الصين مما اضعف تنافسية بعض دول جنوب شرق آسيا، نتيجة ارتفاع الأجور وكلفة العمل مقارنة بالكلفة المنخفضة في الصين مما أثر على القدرة التصديرية حيث تباطأ معدل نمو الصادرات السلعية في تلك البلدان منذ عام 1996”. حقيقة الأمر أن العامل الحاسم في تلك المعارك دون التقليل من دور تلك العوامل المشار إليها أعلاه، كانت الإمكانات المتوفرة بتصرف الاقتصاد الغربي، وعلى وجه الخصوص الأمريكي منه الذي كانت عضلاته في أوج قوتها، ومستمرة في قطف ثمار انتصارات دوله العسكرية من الحرب الكونية الثانية، وانعكاس ذلك لصالح نفوذها الاقتصادي على المستوى العالمي. كان لا بد من هذه المقدمة المقتضبة، التي تحمل في ثناياها الكثير من حكايات المعارك التي نشبت بين النمور الآسيوية والاقتصادات الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ونحن نشاهد اليوم حالة مشابهة، وليست متطابقة، يمارسها الاقتصاد الكوري الجنوبي، والتي يمكن تلمس أبرز ملامحها في النجاحات الدولية التي حققتها، وبتفوق اثنتان من شركاته الكبرى. الأولى هي مجموعة شركات الإلكترونيات “سامسونغ”، والتي سجلت، كما تناقلت وكالات الأنباء، قبل أيام، “أرباح تشغيل قياسية ناهزت أربعة مليارات يورو خلال الثلاثي الأول من العام 2012. حيث تمكنت الشركة من بيع أكثر من عشرين ألف هاتف ذكي غلاكسي في الساعة”. حقت الشركة ذلك، على الرغم، كما ورد على لسان أحد مسؤولي الشركة “من ضعف الطلب الموسمي، وذلك بفضل التكنولوجيا واختلاف منتجاتنا”. الملفت للنظر هنا أن من بين “الـ93 مليون هاتف نقال (التي باعتها سامسونغ في الفصل الأول من العام 2012، (هناك 44 مليوناً منها تنتمي لجيل الهواتف الذكية”. تشكل هذه المبيعات والأرباح ارتفاعاً نسبته 81%”. ويرجع أليكس سبكتور من شركة “ستراتيجي أناليتكس” زيادة مبيعات هواتف سامسونغ النقالة، ومن ثم ارتفاع نسبة أرباحها، “إلى اعتمادها على مزيج من التصميمات الأنيقة لمكونات الأجهزة مع خدمات الأندرويد، فضلاً عن التوزيع الكثيف عالمياً”. على نحو مواز، كشفت شركة هيونداي للسيارات، قبل أيام أيضاً، عن تزايد أرباحها، التي “ارتفعت بنسبة 31% في الربع الأول من 2012 بعد ارتفاع مبيعاتها بدرجة كبيرة في الأسواق الأمريكية والأوروبية. وساعد ذلك في تعويض انخفاض الطلب في الأسواق المحلية الكورية”. أدى ذلك إلى ارتفاع صافي أرباحها خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2012 إلى 2.1 مليار دولار. وكما يقول المسؤولون في الشركة، فهم لا يخشون من منافسة صناعة السيارات الغربية، بقدر ما يراعون تلك القادمة من طوكيو، حيث تحاول شركات صناعة السيارات اليابانية أن تستفيد من ضعف العملة اليابانية مؤخرا، بعد أن “انخفض الين الياباني بنسبة 8% مقابل الدولار الأمريكي منذ بداية العام 2012”، التي تعتمد هي الأخرى على تغلغلها في الأسواق العالمية لتعويض أي ركود في الأسواق الداخلية. ولا يشكل أداء هاتين الشركتين حالة استثنائية في الاقتصاد الكوري، الذي كشفت بيانات الحساب الجاري صادرة عن جهات رسمية كورية أن هناك “فائضاً بقيمة 3042.4 مليون دولار، يتسق مع ميزان البضائع خلال شهر آذار الذي أظهر فائضا بقيمة 3000 مليون دولار”. ولابد من الإشارة هنا إلى أن جهود حكومة سيول، لم تتوقف، كما تقول مصادر رسمية أيضاً، “من أجل استرداد الأموال العامة التي ضختها في المؤسسات المالية المتعثرة في أثناء الأزمة المالية الآسيوية في العام 1997، عندما أنفقت 168.6 مليار أمريكي من المال العام في الفترة من عام 1997 إلى 2008 لدعم المؤسسات المالية، إلا أنها استردت فقط 102.7 مليار دولار أمريكي، أي 61% من إجمالي المبلغ”. وهناك الكثير من الدلائل الأخرى التي تعكس الحالة الصحية الجيدة التي يعيشها الاقتصاد الكوري الجنوبي، فقد كشفت مؤسسات إحصائية رسمية عن “ارتفاع مؤشر ثقة المستهلكين الكوريين لأعلى مستوى له على الإطلاق منذ أحد عشر شهراً. وأعلن البنك المركزي الكوري (في نهاية شهر أبريل 2012) أن مؤشر ثقة المستهلكين هذا الشهر بلغ 104 نقاط بارتفاع ثلاث نقاط عن الشهر الماضي. ويعتبر شهر أبريل هو رابع شهر يحقق فيه المؤشر نمواً. كما سجل مؤشر الأوضاع الاقتصادية الراهنة نسبة 77% بارتفاع سبع نقاط عن الشهر الماضي، بينما سجل مؤشر الأوضاع الاقتصادية في المستقبل نسبة 90% بارتفاع ثماني نقاط عن مارس 2012”. في الاتجاه ذاته أعلن البنك المركزي الكوري، في نهاية شهر أبريل 2012 “ أنه تم تحقيق فائض في الحساب الجاري قدره 3.04 مليار دولار لشهر مارس، مرتفعاً عن الـ1.33 مليار التي تحققت قبل عام مضى، وارتفع الفائض في حساب السلع من 1.31 مليار دولار في فبراير 2012 إلى 3 مليارات، بفضل زيادة صادرات السيارات والمنتجات البتروكيماوية. وارتفعت الصادرات من 45.86 مليار في فبراير 2012 إلى 47.42 مليار في مارس من العام ذاته، وانخفضت الواردات قليلاً من 44.55 مليار إلى 44.42 مليار دولار، كما تباطأت الزيادة في واردات السلع الاستهلاكية قليلاً، وانخفضت مشتريات المواد الخام مثل النفط الخام والغاز وكذلك السلع الرأسمالية