ما أن تقدم دولنا على استحداث هيئة أو مؤسسة أو مجلس أو حتى إدارة داخل وزارة تقوم مشكورة و تسارع في بناء أو استئجار مبان حديثة و تملؤها بالأثاث الفاخر وأجهزة الكمبيوتر من آخر طراز وغيرها. مبالغ بالملايين تصرف من أجل البناء والتجهيز والتأثيث سنوياً. وقد يرى البعض أن هذا تصرف حميد ويضع في عين الاعتبار راحة الموظفين والمراجعين في آن سواء.

لكن الملاحظ ومن عدة تجارب على مر السنين أن تكلفة تشغيل هذه المباني باهظة جداً بالإضافة إلى تكاليف صيانتها الدورية وهذا مع الأسف لا يوازي مستوى الإنتاجية وجودة العمل والخدمة التي تقدم من خلالها. فعلى الرغم من فخامة وأناقة المباني إلا أن من يعمل فيها- أي العنصر البشري - مازال في كثير من الأحيان عادياً جداً من ناحية المهارات وأسلوب العمل وذو إنتاجية متواضعة مخجلة بل ومؤلمة.

ويبدو أن القشور والشكل والمظهر تبقى هي مقاييس الإنجاز ومازلنا متأخرين في تحقيق الهدف الأهم وهو عمل متقن وسريع وذو جودة. فكم من مبنى رائع يضم مئات الموظفين لكن يشقى المراجع للحصول على الخدمة التي ترضيه فيه؟ وكم من مبنى مؤثث بأثاث يبهر العين ومجهز بأحدث التكنولوجيا لكن كل مخرجاته رديئة.

في الغرب، نزور مبان رسمية وخاصة، قديمة جداً ويعود تاريخها إلى مئات السنين تكون قد رممت وجهزت بالاحتياجات الأساسية وتقدم من خلالها للمراجع أعلى مستويات الخدمة وبسهولة ويسر. في ألمانيا مثلاً، يوجد مستشفى يعد الأشهر عالمياً في جراحة العظام ويقع في مبنى قديم و(مكركب) لكن ما يحتويه هذا المستشفى من جراحين ومعالجين وأصحاب مهارات طبية رفيعة تجعله في القمة فيلجأ له الأمراء ورؤوساء الدول والأثرياء للعلاج. وفي فرنسا، توجد مستشفيات في مبان تعود حقبتها إلى القرن التاسع عشر، لكنها تقدم خدمة صحية ليس لها مثيل. ولا ننسى بريطانيا التي لا تتعاطف مع المباني الحديثة إلا نادراً وتفضل أن لا تصرف أموالها على مبان خراسانية ضخمة فنجد جامعاتها تقع مقراتها في مبان عمرها يتجاوز المئة عام لكنها تقدم تعليماً هو الأفضل في العالم.

شخصياً، أفضل العلاج في مستشفى مبناه قديم وممراته عادية الشكل والترتيب لكن فيه أطباء وطاقم طبي من أعلى المستويات على أن ألجأ للعلاج في مستشفى صمم مبناه على أحدث طراز ولكن أطباءه والطاقم مستواهم متواضع. وكذلك الحال بالنسبة للجامعات والمدارس، فالمبنى لا يضيف الكثير إذا كان التعليم فيها سيء. وحتى المباني الرسمية ومهما صرف عليها إذا لم يعمل فيها المخلصون والمحبون لعملهم والراغبين في خدمة الناس تصبح من غير فائدة فعلية.

يا ليتنا نقلب المعادلة ونبحث أولاً عن العنصر البشري الجيد كالموظف الجيد والطبيب الجيد والأكاديمي الجيد وغيرهم وننمي قدراتهم ونتأكد من جودة العمل والخدمة المقدمة منهم وبعد ذلك نبحث لهم عن مبنى جديد وفخم ليزاولوا عملهم فيه.