قبل بداية كأس العالم الأخيرة في البرازيل فإن منتخب بلجيكا كان المرشح الأول للعب دور الحصان الأسود والمرشح الثامن للفوز باللقب الأغلى عالمياً. وصول رجال مارك فيلموتس إلى التصنيف الثامن على قائمة المرشحين كان يعتبر مفاجأة خصوصاً وأن بلجيكا لم تتأهل لأي بطولة كبرى منذ كأس العالم عام 2002 في كوريا واليابان.
ولكن كمية المواهب الشابة التي يملكها المنتخب البلجيكي جعلت المراقبين يعتبرونه مؤهلاً لتقديم كأس عالم مميزة، حيث ضمت تشكيلة فيلموتس التي سافرت إلى بلاد السامبا لاعباً واحداً تجاوز الثلاثين من عمره، وهو دانييل فان بويتن، ولُقبت هذه التشكيلة بالجيل الذهبي للكرة البلجيكية خصوصاً وأنها تضمنت لاعبين مميزين كايدين هازارد، كيفين دي بروين وروميلو لوكاكو ومعظم هذه المواهب لم تكن قد تجاوزت الخامسة والعشرين من العمر.
وبالرغم من أن بلجيكا لم تتجاوز الدور الربع النهائي إلا أن العديدين اعتبروا أن وصولها إلى هذا الدور دلالة لأمور أفضل ستأتي مع مرور الأعوام. وبالفعل فقد وصل منتخب بلجيكا إلى الترتيب الثاني على تصنيف الفيفا الصادر الاسبوع الماضي. الصحافة العالمية سعت قبل بداية منافسات البطولة إلى اكتشاف سر نهضة الكرة البلجيكية وكيف تمكن الاتحاد البلجيكي من انتاج هذا الكم الهائل من المواهب الشابة من دوري لا يتجاوز عدد فرقه 34 فريقاً يتنافسون في درجتين، بينما تعاني دولة كانجلترا والتي يتنافس في درجاتها الأربعة للمحترفين 92 فريقاً لإنتاج المواهب. البحث في أروقة الاتحاد البلجيكي أوصل الصحفيين إلى رجل واحد وهو: ميشيل سابلون.
مسيرة سابلون كلاعب كرة قدم كانت، حاله كحال الكثير من المدربين الناجحين، مغمورة في أفضل الأحوال. لكن سابلون المدرب كان له دور كبير في تاريخ كرة القدم البلجيكية حيث كان مساعداً للمدرب الاسطوري جاي ثايس خلال كأسي العالم 1986، و1990 والذين يعتبران أفضل كأسي عالم قدمتهما بلجيكا في تاريخها حيث وصلت لنصف النهائي في المكسيك وإلى ربع النهائي في ايطاليا. لكن أيام مجد الكرة البلجيكية بدأت بالتراجع بعد اعتزال الاسطورة انزو سكيفو لتفشل بلجيكا في المرور من دور المجموعات في كأس العالم 1998 في فرنسا ويورو 2000 والتي استضافتها مناصفة مع الجارة هولندا. في العام التالي تم تعيين سابلون كمدير فني للاتحاد البلجيكي. وبالرغم من تأهل بلجيكا للدور الثاني من كأس العالم 2002 فإن وضع المنتخبات السنية البلجيكية كان سيئاً بحسب وصف سابلون، والذي أدرك أن لا حل أمامه سوى الإستفادة من تجارب الجيران الهولنديين والفرنسيين الناجحة في تطوير المواهب.
وبعد سنوات من المراقبة والتعلم أخذ سابلون ورقة بيضاء في العام 2006 وبدأ بكتابة مسودة خطته التي ستتحول إلى حجر الأساس في التحول الرائع الذي شهدته كرة القدم البلجيكية. معالم خطة سابلون كانت واضحة وبسيطة والأهم أنها كانت علمية: حيث واجه سابلون معارضة شديدة من الأندية الكبرى في بلجيكا بعد أن أوصى أن تتبع جميع الفرق السنية في بلجيكا خطة 4-3-3، فما كان من سابلون إلى أن طلب من جامعة لوفان أن تصور 1500 مباراة في مختلف الفئات السنية وتحليل هذه المباريات.
وبالمقابل فقد أوكل سابلون إلى شركة Double PASS التابعة لجامعة بروكسل بدراسة وضع الفرق السنية في كل الفرق البلجيكية وتقديم توصياتها، وهي ذات الشركة التي وظفها الاتحاد الانجليزي لتقوم بنفس المهمة بعد تسع سنوات. نتائج هاتين الدراستين أوضحت أن اللاعب الشاب لا يلمس الكرة سوى مرتين كل نصف ساعة وبالتالي فإن معظم اللاعبين لا يملكون المهارات اللازمة للجري مع الكرة. أما السبب الرئيسي وراء هذه الظاهرة كان انتشار التكتيكات الدفاعية وثقافة الفوز بأي وسيلة في بلجيكا. فما كان من سابلون إلا أن ألغى نظام النقاط في جميع مباريات الفئات السنية في بلجيكا وبالتالي تحول الهدف الرئيسي في هذه المباريات من الفوز إلى تطوير اللاعبين.
سابلون قام أيضاً بتخفيض اللاعبين في الفرق السنية إلى ثمانية أو خمسة لاعبين في الفريق بهدف زيادة الوقت الذي يقضيه اللاعب مع الكرة. لكن إيصال محتوى خطته وفوائدها إلى جميع الأندية، والتي أبدت موقفاً رافضاً في البداية، كان صعباً للغاية حيث اضطر سابلون إلى تقديم عرض مستقل لكل نادي كان تتجاوز مدته الأربع ساعات يحتوي على عرض نظري إضافة إلى بعض التوضيحات العملية في أرض الميدان. هذه الخطوات وبالإضافة إلى مدارس التفوق الرياضي الثمانية التي كان قد افتتحها الاتحاد في جميع أنحاء بلجيكا بين عامي 1998 و2002 شكلا نقلة نوعية في مستوى الثقافة الكروية التي يتلقاها اللاعبون. حيث كان اللاعبون المنتمون إلى هذه المدارس كتيبو كورتوا، كيفن دي بروين، ديريس ميرتنز، ناصر الشاذلي، وستيفان ديفور يخوضون حصص تدريبية صباحية في المدرسة إضافة إلى اخرى مسائية مع أنديتهم مما ضاعف الوقت الذي يقضونه مع الكرة.
كل ذلك يبدو رائعاً أليس كذلك؟ لكن إن حاولنا جمع الأرقام والتواريخ المتعلقة بهذه القصة سنجد أن معظم اللاعبين الذين اصطحبهم مارك فيلموتس إلى البرازيل كانوا بين الرابعة عشر والسادسة عشر من عمرهم، أي أنهم أنجزوا إلى حد ما معظم تعليمهم الكروي. وبالرغم من صغر أعمارهم فإن عدداً جيداً من هذه المواهب قطع الحدود نحو فرنسا أو هولندا في عمر صغير جداً: حيث لم يعاصر كل من ايدين هازارد وكيفين ميرالاس خطة سابلون مطلقاً بعد أن انتقل كلاهما إلى ليل الفرنسي قبل تطبيقها. أما الدوري الهولندي، والذي يعتبر قبلة للمواهب البلجيكية، فقد استقدم كل من توماس فيرمايلن في سنة 2000، يان فيرتونخن في سنة 2006 وكلاهما إلى أياكس، موسى ديمبيلي إلى الكمار سنة 2006، وناصر الشاذلي إلى ماستريخت عام 2005. وبالتالي فإن المستوى المميز الذي قدمته بلجيكا في كأس العالم الأخيرة قد لا يكون نتيجة مباشرة لخطة سابلون بل نتيجة الهجرة المكثفة للمواهب البلجيكية نحو أكاديميات أوروبية آخرى مكنتهم من تطوير مواهبهم بشكل أفضل.
نجاح خطة سابلون من عدمه مازال قيد الدراسة ولكن العلامات الأولى لا تبدو مبشرة جداً حيث فشل منتخب بلجيكا في التأهل لنهائيات كأس العالم لتحت العشرين عاماً المقامة حالياً في نيوزيلندا ومازالت المواهب البلجيكية تنتقل بكثرة نحو فرنسا وهولندا ومؤخراً إلى انجلترا، لكن بالمقابل فإن منتخب بلجيكا وصل لنهائيات كأس العالم لتحت سبعة عشر عاماً المقررة في تشرين الأول المقبل في تشيلي. وبالتالي فإن الحكم مازال مبكراً على نجاح الرجل الذي استقال من منصبه في العام 2012 لينتقل إلى مؤخراً إلى منصب المدير الفني للاتحاد السنغافوري في محاولة لإعادة تجربته في بيئة مختلفة كلياً.