كانت الساعة حوالي التاسعة والنصف عندما دخلت مقهى رصيف باريسي على جادة الشانزليزية في إحدى صباحات فبراير قبل عقد من الزمن. ولأنني لم أحب يوماً الجلوس على الطاولات المتطرفة، القريبة من الرصيف مع أنها الأرغب. نزعت البالطو الكحلي الطويل وألقيته على أحد الكراسي الأربعة وجلست، فأقبل النادل الكهل وفي يده قوائم الطعام. وبدل أن يلقي علي تحية الصباح أشار بيده المرتجفة ونهرني بإنجليزية هزيلة قائلاً: إذا كنت وحدك لماذا تجلس على طاولة عليها أربعة كراسٍ! اجلس على طاولة بكرسيين.

نظرت إليه، وقفت، التقطت البالطو، وتمهلت في لف الشال الزعفراني الطويل بترتيب حول ياقة البالطو كما فعل مارلون براندو في فيلم «التانغوا الأخير في باريس»، التفت للنادل وقلت:

أولاً المطعم فاضٍ. ثانياً أنت شايب سيء المزاج، وأنا شايب مزاجي سيء، لكنني أستطيع التمتع برفاهية مزاج الشيبان العكر أكثر منك، أنا أملك النقود، وأنت لا تملك زبوناً واحدأ غيري.

وقبل أن يعطيني محاضرة في الأتيكيت الفرنسي رحلت.

كان الرجل ببساطة يمارس التعالي الفرنسي والأستاذية التي يعتقد بأحقيته فيها بناء على ومضات خفتت بعد ديكارت، فولتير، جان جاك روسو، وجان دارك، ونابليون، أما أنا فقد كنت أمارس ثقافتي، فما قاله الشافعي إن التكبر على المتكبر صدقة، لأنه إذا تواضعت له تمادى في ضلاله، وإذا تكبرت عليه تنبه، وقيل تكبر على المتكبر مرتين. وأشد من ذلك قيل في ثقافتي أظلم الظالمين لنفسه: من تواضع لمن يتكبر عليه.

فرنسا تمر بتحولات داخلية كريهة، محركاتها عدة أهمها تخبط ماكرون وعدم كفاءة فرقه التنفيذية لإدارة البلد وحين الاقتراب في علاقات دولية مع فرنسا تطفو الاستعلائية الفرنسية وكأن الجميع مستعمرات.

لذا طفحت الاستعلائية كردات فعل باريسية على علاقاتها الدولية وليست إلغاء صفقة الغواصات مع أستراليا وحيدة، فهناك خسارات في ليبيا وسوريا ولبنان، وهناك انحسار نفوذ في أفريقيا وإيران وأفغانستان أحمد مسعود، وردة فعل غبية بإقامة جيش أوروبي بدل الناتو، وهناك مقاطعة بضائع من المسلمين، وتهديد فارغ لروسيا بإخراج مرتزقة فاغنر من مالي وغيرها الكثير.

بالعجمي الفصيح

الانكسارات الفرنسية مردها أن باريس تعيش بغطرسة على سمعة بلد النور وليس النور نفسه.