قبل أن أسترسل هنا، اسمحوا لي بتقديم تعريف مبسط لجزأي العنوان أعلاه، إذ ما نعنيه بـ«البيروقراطية المانعة» هي تلك الممارسات الرافضة للتغير نحو الأفضل، أو الآليات الجامدة التي يستمر التمسك بها في بعض المواقع بينما العالم يتطور ويبتعد عنا بسنوات ضوئية بعيدة، في حين «البيئة القاتلة» يمكن لكثيرين أن يعرفوها أكثر مني من واقع خبرة عايشوها، وهي باختصار تلك البيئة المفترض أنها إدارية، لكنها في الواقع «غير إدارية»، بيئة تقتل لدى غالبية موظفيها الدافعية والحماس والرغبة في العطاء، وتضع في نفس الوقت حواجز ومصدات أمامهم لتمنعهم من التقدم والإبداع.

انظروا لحال العالم عندما أصابته جائحة «كورونا»، وكيف أن كثيراً من القيود والممارسات ذات القوالب الجامدة «تحطمت» على الفور، لأن العالم حينها كان في سعي للبحث عن «الأهم» والمتمثل بعمليات إنقاذ الكيانات نفسها عبر إنقاذ البشر والاقتصاد، وهنا حينما تختفي البيروقراطية لأن أحداً لن يتقبلها فلا مجال لتضييع الوقت بسبب عنجهية هنا أو عناد هناك يصدر عن أشخاص يفترض أنهم ضمن المسؤولين أساساً عن إدارة الأزمات باستخدام أساليب مرنة. وحينما تتحول البيئات المغلقة إلى منفتحة، رأيتم الكم الكبير من الأفكار ومساعي الابتكار لأجل ضمان ديمومة العمليات لأن استمرارها يعني استمراراً للبشرية.

الخطأ المعيب الذي يحصل حينما لا تتعلم المجتمعات من تجاربها، بالأخص المريرة منها، وتعود بسرعة البرق إلى «الروتين السابق» حينما تزول المؤثرات الخارجية الاستثنائية، وهنا نتحدث عن جائحة «كورونا» كمثال صريح، حينها يفشل الإنسان في أهم اختباراته العملية والمعيشية عبر نسيانه الأخطاء التي وقع فيها وعدم اكتراثه بالدروس المستفادة.

لذلك كانت مرحلة «الكورونا» أفضل درس في تشخيص مصيبة الإصرار على ترسيخ البيروقراطية في الممارسات، إذ حينما تركناها ولجأنا إلى ابتكار الحلول الذكية، وواكبنا ما فعله العالم المتطور في ممارساته وجدنا أننا نتجه لتحقيق نجاحات منقطعة النظير، ووصلنا بذلك إلى مرحلة شبه مكتملة من الأمان وتجاوز الجائحة.

وعليه فإن هذه الظاهرة لا بد أن تكون انقرضت الآن، ولا بد للحكومة التأكد من انتهائها تماماً عبر الوقوف على آراء المعنيين بها من متأثرين وعملاء ومواطنين موجهة لهم الخدمات، ومن ثبتت عودته لسابق العهد في تغليب البيروقراطية في عمله كأسلوب مقصود ينبغي لنا أن نطبق عليه الإجراء الذي ثبتت فاعليته خلال «كورونا» وأعني هنا «الاستبدال بما هو جديد ونافع»، وأتحدث هنا بصراحة عن الأدوات التي تعتبر التغيير «عدواً» لها.

أمام فيما يتعلق ببيئات العمل، إذ مثلما كانت أغلبها «مرنة» وتشكلت فيها «فرق» تجتهد للتغلب على تأثيرات الجائحة، ومثلما سمحت للكثير بإبداء رأيه وتقديم أفكاره والخروج بابتكارات خدمت موقع عمله وساهم في دعم جهود البلد، فيتوجب الآن إعلان الرفض القاطع لعودة هذه البيئات إلى ما كانت عليه سابقاً، ورفض أية «تراجعات» فيها بشأن إدارة القوى البشرية بشكل صحيح.

بعض بيئات العمل هي «بيئات قاتلة»، وعليه من الصعوبة الطلب من موظفيها بأن يمارسوا الإبداع ويخوضوا في تحدي الابتكار، إذ حينما يكون «الضرر كبيراً جداً» في هذه البيئات لن يعيرك أحد من الموظفين الانتباه حينما تتحدث عن الإبداع، لأن أغلب ما يفكرون فيه هو النجاة بأنفسهم والحفاظ على أعصابهم وأن يسلموا على وظائفهم، وهذا واقع للأسف تجدونه في أي بيئة تنتهج قتل الكفاءات ومحاربة التميز والإبداع، هذه البيئات هي التي تتحول لحجر عثرة أمام مساعي أي بلد للتقدم.