لا شيء يضاهي فرحة انتظار مولودٍ جديد، لأن مع كلّ بداية حياةٍ تتكون في هذا العالم تتجدد بارقة الأمل بتبرعم السعادة وتفتح الخير على كافة المحيطين بهذه الولادة.. وهكذا تكون مشاعر الوالدين وهما ينتظران استقبال طفلٍ يملأ حياتهما بالشغف والسعي نحو توفير كلّ ما يهيء الراحة والاستقرار والأمان له، فتراهما يعدان العدة لتجهيز كافة المستلزمات المادية للمولود ويبذلان الغالي والنفيس ليكون بأبهى حلّةٍ وصورة أمام أفراد العائلة ومجتمع الأصدقاء.

وتحين ساعة الولادة المرتقبة ويتلقى الوالدان التهاني والتبريكات ويستمرّ الطفل في النمو ويكبر شيئاً فشيئاً مالئاً حياة والديه بالتحديات والتجارب المختلفة، وقد تبدو جميع الأمور طبيعية وعادية إلى حد ما إلا أن هناك ما يثير ارتياب الأم بعض الشيء وهي تراقب طفلها وهناك ما يؤجج قلق الأب وهو يلاعبه، إذ يلاحظان أن ملامح طفلهما غير طبيعية قليلاً، وأنه تأخر في ندائهما بماما وبابا، وأنه لا يستطيع الإمساك بالملعقة بشكل جيد وبطيء في الأكل، ولا يتواصل مع بقية الأطفال بطريقة مناسبة، كما أنه سريع الهيجان تنتابه ثورات غضب حادة تصل إلى حد العدوان، ويبدآن بالتساؤل: لماذا يبدو طفلنا متأخراً عن أقرانه؟!!

وتبدأ من هنا رحلة الوالدين في البحث عن طبيعة المشكلة، فيراجعان الكثير من الأطباء والمختصين ويجريان العديد من الفحوصات والاختبارات على الطفل، إلى أن يتم تأكيد التشخيص من جهات متعددة: طفلكما يعاني من تدنٍ في مستوى الأداء الفكري، مما يؤدي إلى محدودية قدرته على القيام بواحد أو أكثر من مهام الحياة اليومية الاعتيادية إلى درجة تتطلب دعمه بشكل مستمر...باختصار لدى طفلكما إعاقة ذهنية!



يفاجئ الوالدان، وقد يدخلان في مراحل الصدمة بدايةً بالإنكار ومروراً بالغضب والاكتئاب وأخيراً التقبل، وهنا يسعيان جاهدين لعلاج ابنهما بمختلف الطرق والوسائل الطبية والجسدية، فينتقلان من عيادة الرعاية الأولية إلى عيادة النمو والأمراض العصبية، ثم أخصائيي النطق، والعلاج الطبيعي، وخبير التغذية، والمعلم الأكاديمي والمهني، وغيرها.. ويكبر الطفل، وينشأ بين أطفال عائلته، ويخرج للحدائق والمنتزهات والأماكن العامة، وقد يدخل المدرسة في بعض الأحيان أيضاً ويقابل أقرانه الأسوياء في كل مكان ويحاول أن يندمج معهم لكنه يُفاجئ ويُفاجئون بأنه لا يفهمهم ولا يفهمونه، مما يعرضه للإحباط والألم، فيُفتح بابٌ آخر لم يطرقه الوالدان غالباً في طريق العلاج ألا وهو باب الطبيب النفسي أو الأخصائي النفسي!

أشارت الدراسات الحديثة إلى أن حوالى 20 إلى 35% من الأشخاص المصابين بالإعاقة الذهنية يعانون من اضطراب في الصحة النفسية أيضاً، حيث يكون القلق والاكتئاب شائعين لدى هذه الفئة من الأطفال، لا سيما الذين يدركون أنهم مختلفون عن أقرانهم أو الذين يعانون من سوء المعاملة بسبب إعاقتهم، كما يكون الأطفال الذين لديهم إعاقة ذهنية إلى حدٍ ما أكثر عرضة لتطور مشاكل سلوكية، مثل الهيجان، أو نوبات الغضب، أو السلوك العدواني الجسدي، أو الأذى الذاتي. وغالبًا ما ترتبط هذه السلوكيات بحالات إحباط معينة تتعلق بضعف القدرة على التواصل والتحكم في الدوافع، وقد يكون الأطفال الأكبر سناً ساذجين، ويُستغلون بسهولة فيصبحون أكثر عرضة للتحرشات والاعتداءات الجنسية، أو يُدفعون إلى تصرفات خاطئة أخرى كعمل المقالب أو السرقة والاحتيال.

ومن هنا تأتي أهمية إدخال الرعاية النفسية الاجتماعية بشكل مبكر في برامج الرعاية الأولية لدى الأطفال المصابين بالإعاقات الذهنية سواءً لهم أو لأفراد أسرتهم، حيث أن الاهتمام بالجانب النفسي المعنوي لدى هؤلاء لا يقل أهمية عن طرق أبواب الرعاية الصحية الجسدية، ويتم ذلك من خلال تنمية السلوك الوجداني وتنمية وتوجيه واحترام دوافع وحاجات المعاق ذهنياً، كما أن خصائصه وسماته الشخصية يجب ألا تعامل بحسبانها تخص شخصاً سوياً متمتعاً بالصحة العقلية والنفسية، فكثيراً ما يوجد اضطراب نفسي أو سوء توافق شخصي مصاحب للإعاقة الذهنية، ومن هذا المنطلق تتم مساعدته على فهم ذاته وفهم دوافعه والتوافق مع دافعه وهذه مهمة تحتاج منا أن نبدأ أولاً بتقبل المعاق وبذل الجهد لجعله منتبهاً إلى الواقع وما يدور فيه ومهتماً ببعض الجوانب التي يمكن أن يتعلق بها وتمثل بالنسبة له مواضيع جاذبة، كما يجب الانتباه إلى ضرورة تجنب العنف والشدة مع المعاق ذهنياً واللجوء إلى أساليب اللعب مما يساعده على عدم الاستجابة بعنف للمواقف التي يتعرض لها، أي أن المطلوب من الرعاية النفسية هو مساعدة المعاق ذهنياً على أن يهتم بنفسه وبمجتمعه ويتعلق بجماعته، ويحدد لنفسه هدفاً ولو متواضعاً يطمح إلى بلوغه وعلى أن يسير هذا جنباً إلى جنب مع تنمية مهاراته وقدراته لاسيما السلوكية منها.

أخيراً، إنجاب طفلٍ يعاني من إعاقة ذهنية لا يُلغي فرحة ولادته، فهو طفلٌ أيضاً ولديه من المشاعر والأحاسيس والاحتياجات النفسية ما لدى بقية الأطفال الأسوياء، وكما يتم إعداد العدّة لاستقباله وتنشئته تنشئة جسدية وتعليمية مناسبة، يجب أيضاً تمهيد الطريق لنموه النفسي السليم وتقليل مواقف الإحباط والشعور بالدونية في محيطه الأسري والاجتماعي قدر الإمكان حتى لا يكون عرضةً للإصابة بالاضطرابات النفسية المختلفة.

* خديجة العويناتي || أخصائي نقسي إكلينيكي في مستشفى سلوان للطب النفسي