كتب - أمين صالح: عندما وجد ستانلي كوبريك أن القصة القصيرة التي كتبها آرثر كلارك بعنوان The Sentinel “الحارس” تشكّل الأساس أو المنطلق لسيناريو فيلم، قام بالاتصال بالكاتب، ومعاً حوّلا القصة إلى رواية، من أجل تنمية وتطوير إمكاناتها، ثم حولا الرواية إلى سيناريو استغرق عامين. يقول كوبريك (مجلة (Action, Jan/ Feb. 1969) : “السيناريو هو الشكل الأكثر تحفظاً من بين أشكال الكتابة المخترَعة في أي وقت. من الصعب أن يوصّل السيناريو الحالة والمجاز أو الخيال البصري. بإمكانه أن يوصّل الحوار. لكن إذا تشبثت بتقاليد وأعراف السيناريو، فينبغي للوصف أن يكون مختصراً وشديد الإيجاز. لا يمكنك بالنص أن تخلق الحالة أو ما شابه، لذا فالسيناريو المكتوب كان يحتوي على قطعة نثرية، بلغ عدد كلماتها أربعين ألف كلمة، كتبتها مع آرثر كلارك. ذلك كان أساس الصفقة والموازنة وغيرها. بعدئذ كتبنا السيناريو من ذلك النص، ثم كتب آرثر الرواية انطلاقاً من السيناريو”. البحث عن آثار الحضارة القصة تتعلق باكتشاف الـ sentinel والبحث عن آثار للحضارة التي وضعته هناك، هذا البحث الذي يفضي إلى قيام المستكشفين برحلة فضائية إلى المراكز المهمة الأبعد في النظام الشمسي. الرحلات الفضائية تعبّر عن أمل الإنسانية في تغيير رؤية البشر لأنفسهم ولعالمهم. وفيلم كوبريك (1968م) يبدأ في فجر الحضارة، مع الإنسان- القرد (المخلوق ما قبل البشري) الذي يعيش ضمن مجموعة صغيرة، في منطقة صخرية، في ذعر دائم من الجماعات المجاورة، المنافسة، والتي معها هي في صراع مستمر من أجل السيطرة على المياه، وبالتالي التحكم في محيطه أو بيئته. هنا يعرض كوبريك الوجه البدائي للشخصية الإنسانية حيث البواعث الغريزية والحاجة إلى الطعام والمأوى والتكاثر. يوماً ما، تتفاجئ المجموعة بوجود حجر ضخم، على شكل عمود أو مسلة، ينتصب أمامهم في غموض شديد. عندما تتبدد مخاوفهم، يتعلم أحدهم استخدام العظم كسلاح للفتك بعدوه. المفارقة تكمن هنا: بتعلم الإنسان البدائي كيفية تعزيز قواه البدنية، من خلال استخدام الأداة- السلاح لقتل واحد من بني جنسه، هو قام بخطوة نحو اكتساب الطبيعة البشرية. إنه يرمي سلاحه، الذي يتّخذ سبيلاً لولبياً في الجو، ليتحوّل بعد ملايين السنين إلى سفينة فضاء تحوم في فضاء العام 2001م. تكنولوجيا الإنسان نتجت من اكتشافه للسلاح يقول كوبريك (The Movie Makers: Artists in The Industry ،1973): “إنها ببساطة حقيقة جديرة بالملاحظة: إن كل تكنولوجيا الإنسان نتجت من اكتشافه للسلاح- الأداة. ليس ثمة شك أن هناك علاقة عاطفية عميقة بين الإنسان وأسلحته الآلية. الآلة تبدأ في توكيد نفسها بطريقة عميقة جداً، بل أنها تجذب العاطفة والاستحواذ”. إن المسافة الشاسعة بين ما كانه الإنسان، في حالته البدائية، وما أصبح عليه، تجد تعبيرها الدرامي في التجاور الفجائي لصورة الكائن البدائي وهو في حالة انتشاء غامر خلالها يقذف نحو الفضاء العظمة، التي قتل بها مخلوقاً آخر، لتتحول إلى مركبة فضائية تنطلق برشاقة وتنقل الإنسان إلى عتبات معرفة جديدة للذات والكون معاً. المركبة الفضائية تحط على القمر للتحري بشأن حجر أسود مدفون عميقاً تحت السطح، والذي راح يبعث إشارات في اتجاه كوكب المشتري. مركبة الفضاء العملاقة “ديسكفري” تشرع في رحلة إلى المشتري تستغرق تسعة شهور، مع طاقم مؤلف من رائديّ الفضاء، ديف (كير دوليا) وفرانك (جاري لوكوود)، وثلاثة آخرين في حالة سبات. هؤلاء يجدون أنفسهم تحت رحمة الكومبيوتر هال 9000 الذي يتحكم في المركبة الفضائية. ثمة تجاورات متكررة للإنسان – بإخفاقاته البشرية وقابليته لارتكاب الخطأ – والآلة التي هي عملية وفعالة، لكن بلا عاطفة أو مشاعر. عندما يرتكب الكومبيوتر هال خطأ ما، وهو الذي يعتبر نفسه معصوماً عن الخطأ، فإنه يرفض أن يسمح بتقديم دليل يثبت ذلك، لذا يباشر في تدمير المقيمين في المركبة الفضائية من أجل ألا ينكشف الخطأ. لكن ديف ينجح في تعطيل ذاكرة هال، ومواصلة السفر وحيداً. عندما يقترب من المشتري، يرى حجراً أسود غريباً في مدار بين أقمار الكوكب، وفجأة يتعرض للامتصاص في بُعد جديد، حيث قوانين الزمن والمكان لا تعود قابلة للتطبيق، وحيث العوالم تتخلق والمجرات تتفجر. يقول كوبريك (المصدر السابق) : “شخص ما قال إن الإنسان هو الحلقة المفقودة بين القرود البدائية والكائنات البشرية المتحضرة. هذه الفكرة متضمنة في صلب قصة هذا الفيلم. نحن شبه متحضرين، لدينا القدرة على التعاون والحب، لكن نحتاج إلى نوع من التحوّل إلى شكل أعلى من أشكال الحياة. بما أن الوسائل لمحو الحياة على الأرض هي موجودة، فإن تفادي الكارثة النهائية يحتاج إلى أكثر من مجرد التخطيط الحذر والتعاون الصائب. المشكلة توجد طالما أن الاحتمال موجود، والمشكلة هي أساساً أخلاقية وروحية”. النهاية مفتوحة للمتفرج نهاية الفيلم مدهشة وأخاذة بصرياً: الزمن والمكان في حركة متواصلة، ضمن محيط متغيّر الألوان مثل المشكاة، مغلّفاً رائد الفضاء، ديف، الناجي الوحيد، والذي سيولد من جديد في هيئة جنين نجمي، كائن خارق، يندفع نحو الأرض في مشيمة شفافة تقريباً.. وذلك – كما يقول كوبريك “ليعود إلى الأرض وهو مهيأ للوثبة التالية إلى الأمام نحو القدر النشوئي للإنسان”. وعن غموض النهاية، يقول: “يتعين عليك أن تترك شيئاً لمخيلة المتفرج”. النهاية لا تظهر الكثير ولا تفسّر الكثير، بل تساعد المتفرج على المشاركة ليخلق لنفسه التجربة التي تؤلف الفيلم. الفيلم بالتالي يصبح للمتفرج تجربة ذاتية كثيفة تصل إلى الوعي الباطني بالطريقة نفسها التي تمارسها الموسيقى، تاركةً المتفرج حراً في التأمل في محتواه الفلسفي والمجازي. يقول كوبريك (المصدر نفسه): “الإحساس بالتجربة هو الشيء المهم، وليس القدرة على التعبير بالألفاظ. لقد حاولت أن أخلق تجربة بصرية تخترق مباشرة المحتوى اللا واعي للمادة”. النهاية، في الواقع، تعبّر أو توحي بأن الكائن البشري سينجو من الانهيار الوشيك للحضارة الغربية، وبأنه يستطيع أن يجدد نفسه، أن يولد من جديد.. ومن ثم يحقق اتصاله مع الشكل الأسمى للحياة. من أجل إنجاز هذا الفيلم، احتاج كوبريك إلى ثلاث سنوات، شملت المشاركة في كتابة السيناريو، الإعداد والتحضير بحرص شديد وعناية فائقة، العمل مع الممثلين، الإشراف على المؤثرات الخاصة المعقدة مع فريق من الفنانين والمصممين وفنيي المؤثرات الخاصة والمستشارين العلميين. كذلك شاهد أغلب أفلام الخيال العلمي، واستمع إلى أعداد هائلة من المؤلفات الموسيقية الحديثة ليقرر أي أسلوب من الموسيقى يلائم الفيلم. يقول كوبريك ( Playboy, Sept. 1968): “من أجل إنتاج المؤثرات الخاصة، كان من الضروري أن نتخيّل ونصمم ونهندس تقنيات جديدة تماماً. هذا استغرق 18 شهراً ومبلغاً ضخماً من موازنة الفيلم البالغة نحو 10 ملايين دولار (..) لقد شعرت أن من الضروري تحقيق هذا الفيلم بحيث تبدو كل لقطة، تحتوي على مؤثرات خاصة، مقنعة تماماً، وليس كما في أفلام الخيال العلمي الأخرى”.