بانعكاسات أشعة الشمس بين "البرستي" والقطع الخشبية، وبامتداد أكثر من ألف و300 خيط، يجلس الأخوان صالح ومحمد عبدالرضا أمام آلات حرفية قديمة يمتد طولها لأكثر من ثمانية أمتار، ليحيكا قطعا من النسيج اشتهرت بها مملكة البحرين لأكثر من قرن من الزمان، فمن قلب مصنع بني جمرة للنسيج، تحيك أناملهما قطع خام تتجاوز حدود الصنعة اليدوية والقيمة التراثية لتصل إلى حدود الإبداع والتفرد في العمل، فالنسيج حكاية جمال جديرة بأن يسلط الضوء عليها لما تتوفر به من عناصر جودة ومتانة تميزه عن غيره من الأقمشة المصنعة.
نسيج البحرين حرفة اشتهرت بين قرى البحرين القديمة، حيث كانت تمتد من "مقابة" و"أبوصيبع" وتصل إلى "المرخ" و"الدراز" لتنتهي عند "دار كليب" و"شهركان"، ولكن القرية الوحيدة التي صمدت في وجه اندثار الصنعة هي قرية "بني جمرة"، فمن قرية كانت تضم أكثر من 100 مصنع، تبقى اليوم مصنع واحد شامخ في إحدى زوايا مدخل القرية.
بخيوط تستورد من الصين وإيطاليا ومصر، وبإمكانية اختيار الألوان للقطع النسيجية أو القطنية، وحياكتها وفق اللون والتصميم المطلوب، ثمة فرصة ذهبية لفتح آفاق صناعات وطنية مختلفة تجدد الارتباط بالنسيج البحريني وتفتح الأبواب لخلق مزيد من الإبداع والابتكار تحت مظلة صناعة تاريخية وحرفة يراد لها البقاء لا الاندثار.
هيئة البحرين للثقافة والآثار ساهمت في بناء مصنع "بني جمرة" للنسيج عام 2020 ونجحت في إعادة إحياء مهنة كانت تتحدى الاندثار، إضافة إلى تقدير العاملين لهذه الصنعة الذين أبوا إلا المحافظة على مهنة الأجداد، فمن يجول في المصنع لابد وأن يتردد على مسامعه اسم المرحوم الحاج عبدالرضا جعفر، الذي كان آخر النساجين من جيل الأجداد، ليواصل أنجاله المسيرة ولينقلوها إلى الأحفاد بحب وارتباط كبير بمهنة امتازوا بها وأبدعوا فيها.
المصنع مشروع ثقافي تراثي نجح في إشراك المجتمع المحلي كشريك في صناعة النجاحات الوطنية، فمن الإرث القديم تتشكل قصة جمال، ومن خطر الاندثار تتجدد الحرف القديمة نفسها في محاولة لدمج القديم بالحديث، وهو ما يظهر جليا في معروضات مركز البيع حيث تم تطوير المنتج ليتجاوز قطعة الخام التي تباع بخمسة دنانير للمتر إلى وجود أفكار طوعت هذا المنتج الحرفي لتعرض على الرفوف على هيئة منتجات يمكن اقتنائها واستخدامها بشكل يومي.
الحرفي محمد عبدالرضا يكشف تفاصيل مهمة عن مهنته التي توارثها عن أجداده، فالنسيج مهنة تتطلب عمل جميع أجزاء الجسم، وكأنما يتوحد الحرفي مع آلته لنسج خام مميز، حيث تصطف الخيوط مع بعضها البعض بدقة متناهية لتصل إلى 1300 خيط، يتم مدها في شوارع القرية استعدادا لبدء العمل، فعملية ترتيب الخيوط واعدادها تتطلب قرابة الساعتين من العمل، فخيوط (السدات) هي خيوط الطول وخيوط (اللحمة) هي خيوط العرض، وبينهما ثمة عمل دقيق تحيكه يد النساج بمهارة عالية.
تحدث محمد عن العباءة القديمة التي لا تزال تلبس في بعض مناطق السعودية، إضافة إلى توظيف النسيج في تجهيز العروس، وتلبية طلبات خاصة للنسيج لمن يرغب فيه، وبسؤاله عن أمنيته قال: "أتمنى أن تعود القرية لسابق عهدها حيث كانت تضم أكثر من 40 حرفيا يعملون في النسيج".
وكان محمد يجلس منهمكا في حياكة قماش أبيض كبير، وبسؤاله عنه قال: "هو طلب خاص لمصممة أجنبية، جلبت نوعا خاصا من الخيوط (اللينن) من الخارج وطلبت حياكة أكثر من 40 مترا لعمل ستائر منها، ولا يقف العمل هنا بل ستأخذه بعد أن يجهز إلى سيدات يعملن على حرفة النقدة في "الدير" ليركبن عليه نقوشا من (النقدة)، لتصبح قطعة فنية بصناعة يدوية لا تضاهي في الأناقة والجمال والرقي".
ويقول محمد "في الوقت الذي نحتاج فيه إلى 6 (قبات) من الخيوط لعمل متر واحد من النسيج، نتمنى الدعم في توفير الأدوات التي نحتاجها لهذه الصناعة، إذ ثمة مصممات بدأن في توظيف النسيج في تصاميم حديثه تباع في الأسواق، إضافة إلى توظيف النسيج في صناعة الحقائب والشالات وغيرها"، ويختم حديثه بالتأكيد على أهمية تعليم أبنائهم للحرفة إذ ينصحهم قائلا: "تعلم المهنة وحطها في الدوزنه" -على حد تعبيره.
أما النساج صالح عبدالرضا الذي يجلس في الغرفة المجاورة له، فقد كان موظفا في دائرة الزراعة ثم أحيل إلى التقاعد وتفرغ للصنعة، والملفت بأن ابنه حبيب يعمل في هيئة الثقافة والآثار وتعلم المهنة بحب وبدأ في تعليم أبنائه بدوره.
يقول النساج صالح أن أساس الصنعة كان صناعة النسيج لأغراض متعددة منها صناعة العباءات القديمة (الإردة) والملافع والقمصان والغتر والبشوت وأشرعة السفن وغيرها، ففي زمن الحرب العالمية الثانية كانت الحرفة مهمة جدا وتم تصدير منتجاتها لكل من دولة الكويت والمملكة العربية السعودية، واليوم ثمة تطوير للحرفة أيضا حيث يتم صناعة الحقائب والشالات والكمامات وأغطية الكراسي والطاولات، في محاولة لمجاراة الموضة وتوفير الأدوات المناسبة للاستخدامات اليومية.
بخيوط القطن والبوليستر واللينن والصوف والحرير، يبدع النساج في عمله فهي صناعة واعدة يمكن أن تعود بالنفع الكبير على الصناعات الوطنية، وعنها يقول صالح: "لابد من الإبقاء على التراث، فالقماش يمتاز بجودة ومتانه، وأصبحت منتوجاتنا معروضة في باب البحرين ومجمع العاصمة، فأقمشتنا تظل لعشر سنوات دون تغيير في الشكل أو اللون"، وختم حديثه بأن "ما يحتاجه نسيج بني جمرة هو وجود أفكار إبداعية توظفه في أشكال وصناعات مختلفة، فهو قماش ممتاز قادر على المنافسة في السوق العالمية بكل قوة".
من جانبه تحدث سلام يوسف المشرف على المصنع عن أهمية المكان، مبينا قصص التميز التي فيه، فهم يصنعون قطعا فنية لا تقل في أهميتها عن أي ابداع فني كالموسيقى أو الرسم، فهناك منتجات يمكن أن تصنع لمرة واحدة ولا يعاد عملها، وثمة أفكار كثيرة يمكن تطبيقها من النسيج البحريني.
ويوضح سلام دور الحرفي حبيب ابن الحرفي صالح عبدالرضا في تطوير المنتجات فهناك كمامات وأغطية هواتف ذكية وثمة توجه للتجديد والتطوير الدائم في هذه الحرفة البحرينية المتميزة، التي تتطلب حسابات دقيقة للخيوط وكيفية عمل العقد، لا يتقنها سوى الحرفي المتدرب والمحترف، فمن خلال عمله في المصنع لمس اعجاب كل الزائرين لهذا العمل المميز وخصوصا من الأجانب الذين يبدون انبهارهم بما يرونه من منتجات.
واستذكر سلام أن هذا المصنع أنشئ في 23 ديسمبر 2020 ، وافتتحته معالي الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، والسيد علي عبدالحسين العصفور محافظ المحافظة الشمالية، وتواجد في افتتاحه مؤسسات المجتمع المدني المحلية، وقال إن هذا المصنع جاء ليعبر عن جهود صادقة للحفاظ على الحرف اليدوية والصناعات التقليدية، وتأكيدا على المستوى الذي يقدمه المصنع تم عرض المنتجات الإبداعية في جناح البحرين الذي شارك في إكسبو 2020 دبي.
يذكر أن المصنع صممه المهندس المعماري السويسري ليوبولد بنكيني ويشتمل على مساحات مخصصّة لأعمال النسج والغزل ووحدات لصنع منتجات النسيج بالطرق التقليدية الأصلية، إلى جانب وحدات للتعليم والتدريب ومتجر للهدايا.