* بقلم: غادة حميد حبيب

تم تحديد يوم العاشر من ديسمبر من كل عام للاحتفال بإعلان يوم حقوق الإنسان، ويُعرف أيضاً باسم اليوم العالمي لحقوق الإنسان، والذي يوافق يوم إقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قبل جميع أعضاء لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة واعتمدته الجمعية العامة في عام 1948، وكان قد بدأ العمل على صياغته في عام 1946 وذلك كإحدى النتائج القانونية لمعالجة آثار الويلات الفظيعة التي عانتها البشرية جراء الحرب العالمية الثانية، ويعد هذا الإعلان إحدى المرتكزات التي تكاملت مع قواعد القانون الدولي الإنساني، والذي بدأت تتبلور ملامحه أيضاً في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي مع ما تُعرف باتفاقيات جنيف.

ويقر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ثلاثين حقاً وحرية أكد ضرورة إتاحتها للجميع وتمثل المجموعة الأساسية والحد الأدنى من حقوق الإنسان لجميع البشر، معتبراً أنها تستحق الحماية الشاملة لكي يعيش كل فرد حياته بحرية وعلى قدم المساواة وبكرامة.

وعلى الصعيد الواقعي فإن ترجمة "حقوق الإنسان" كما جاءت في إعلان الأمم المتحدة، بشكل يضمن تطبيقها واحترامها وعدم النيل منها، واجهت صعوبات جمة، مردها الرئيس إلى عدم وجود قوة إلزامية لفرض احترام تلك الحقوق والمبادئ، وخاصة على الصعيد الدولي، فرغم أن مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة قد وضعا آليات قانونية للتعامل مع المسائل التي تدخل في نطاق قضايا حقوق الإنسان، ولاسيما تلك التي لها تأثير مباشر على الأمن والسلم الدوليين، إلا أن محددات السياسات الخارجية وطبيعة النظام الدولي الذي ساد لعقود طويلة آنذاك وانقسام العالم ما بين معسكرين شرقي وغربي ومع أجواء الحرب البادرة، أدت إلى تحييد آليات فرض احترام قواعد حقوق الإنسان في مناسبات وأحداث كثيرة، بل وعلى العكس انتقلت الفظائع والجرائم المرتبطة بالنزاعات المسلحة من شكلها العام العابر للحدود كما في الحرب العالمية الثانية إلى أشكال أكثر "تجزئة وانتشارا" خاصة بعد حصول الكثير من الدول على استقلالها في حقبتي الخمسينيات والستينيات وعدم تضمين حقوق الإنسان بشكل جدي في دساتير وبنية الأنظمة السياسية لتلك الدول، بالإضافة إلى التذرع بالسيادة المحلية، مما أدى إلى خرق القانون الدولي الإنساني، وقواعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرات متكررة، بشكل أصبحت فيه هذه القواعد في كثير من الأحيان مجرد حبراً على ورق، ولذا فإن حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية ورغم الاستقلال السياسي لكثير من الدول، شهدت استمرار ظواهر الفقر والتخلف والجهل والمرض في عديدٍ من مجتمعات آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية.

وبالإضافة إلى إشكالية عدم وجود آلية إلزامية لاحترام حقوق الإنسان، فإن احترام هذه الحقوق واجه معضلة أخرى كبيرة وهي "الانتقائية" في التعامل معها، بل واستخدام تلك الحقوق كصورة من صور "القوة الناعمة" التي تمتلكها بعض الدول وتفعلها في علاقاتها بالآخرين، الأمر الذي جعلها مجرد أداة من أدوات السياسة الخارجية ووسائل الضغط والتفاوض وأحيانا التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهنا تكمن خطورة المزج بين "النسبي والمطلق"، فكما هو معروف في عالمنا المعاصر فإن "السياسة" ترتكز على مرجعيات نسبية أكثرها براجماتي نفعي، وربما في بعض الأوقات "غير أخلاقية" قائمة على تعظيم فكرة المصلحة، ومبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، أما حقوق الإنسان فيُفترض أنها تُصنف ضمن منظومة القيم الأخلاقية والسلوكية العامة المطلقة من حيث الأصل، ولذا فعندما تختلط السياسة النسبية بحقوق الإنسان المطلقة تتقوض مصداقية الاهتمام بهذه الحقوق والدفاع عنها وحسن النية في التعامل بها.

وكذلك ظهرت حديثاً إشكالية أخرى جديدة وهي "نسبية" حقوق الإنسان، ولا نعني هنا نسبية تطبيقها والالتزام بها، بل نسبية هذه الحقوق ذاتها، ومثال على ذلك فكرة "القتل الرحيم" التي بدأت تنتشر مؤخراً في بعض الدول، فالبعض قد يعتبر أنها حقاً من حقوق الفرد، في المقابل يعتبرها البعض مناقضة وهادمة لحق أساسي من حقوق الإنسان وهو الحق في الحياة، وهلم جرا، الأمر الذي أصبح أكثر حساسية ومدعاة للجدال في ظل سيادة العولمة الشاملة، والترابط العضوي بين كل دول ومجتمعات العالم وتأثرها البيني بما يحدث في أي واحدة منها، وهنا تمكن أهمية الاستمرار في الدفاع عن هذه الحقوق، في حدها المقر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إن لم يكن على المستوى الدولي ككل، فعلى المستوى الوطني داخل كل دولة، وهنا يحق لنا أن نتحدث بفخر واعتزاز عن سجل البحرين المضيء في احترام حقوق الإنسان بمعناها الأممي، أو بمعناها التنموي الشامل، وكذلك بمعناها الفكري والقيمي المستنير، وإننا لا نبالغ إذا قلنا أن مملكة البحرين حازت قصب السبق في كثيرٍ من الميادين والمجالات التي اهتمت بالإنسان وجعلته عماد نهضتها الحديثة، ومحور السياسات والخطط والاستراتيجيات بشتى أنواعها، بشكل أصبحت معه إنجازات البحرين الديمقراطية والحقوقية محط ثقة وتقدير واحترام من جانب المجتمع الدولي، خاصةً مع انضمامها إلى أكثر من 30 اتفاقية حقوقية دولية، منها المتعلقة بالقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري، ومناهضة التعذيب، إلى جانب العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وغيرها، وعلى الصعيد التنفيذي فقد تم إنشاء العديد من المجالس والهيئات والمؤسسات الوطنية المستقلة لحماية الحقوق والحريات العامة، وتعزيز ونشر ثقافة حقوق الإنسان، وفي مقدمتها: المجلس الأعلى للمرأة، والمؤسسة ‏الوطنية لحقوق الإنسان، والأمانة العامة ‏للتظلمات، ومفوضية حقوق السجناء والمحتجزين،‏ ومكتب المفتش العام بجهاز المخابرات الوطني، ووحدة التحقيق الخاصة بالنيابة العامة، ومعهد التنمية السياسية، فضلاً عن تفعيل دور المجتمع المدني حيث بلغ عدد المنظمات غير الحكومية في مملكة البحرين حوالي 650 منظمة، تتنوع بين منظمات خيرية واجتماعية وحقوقية ونسائية وشبابية ومهنية وجمعيات للجاليات الأجنبية، بالإضافة إلى 11 جمعية ومؤسسة أهلية وطنية منها تختص برصد ومراقبة حقوق الإنسان وتمارس دورها في المملكة بفاعلية وتقوم بجهود مميزة لدعم وتعزيز وتطوير كل ما يتعلق بحقوقِ الإنسان، إذ تستهدف هذه الجمعيات في نشاطاتِها وبرامجها مختلف الفئاتِ والشرائح المجتمعية، بدورها جاءت القوانين الوطنية لتعكس احترام الحقوق والحريات ومن أمثلتها تلك المتعلقة بحرية الرأي والعقيدة وكفالة حقوق العمالة الوطنية والأجنبية ودعم الجمعيات والنقابات وتجريم الإتجار بالبشر.

أما في جانب الحقوق الاقتصادية والتنموية فإن المملكة تحقق مؤشرات متقدمة جداً عربية وعالمياً في مجالات التنمية البشرية وذلك بحسب التقارير الصادرة من الأمم المتحدة، وكذلك فإنه بحسب بيانات صادرة عن صندوق النقد الدولي عام 2021م، فقد بلغ نصيب الفرد في البحرين من الناتج المحلي الإجمالي 26.9 ألف دولار، وهو أعلى رابع معدل في الدول العربية جميعها، كما يعد من أعلى 30 دخلاً للفرد على مستوى العالم كله.

وختاماً.. ومع الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان، فإنه من الأهمية بمكان التأكيد على محورية التكامل مع جهود المجتمع الدولي في مجال حقوق الإنسان على أساس من الموضوعية والمصداقية وعدم قابلية هذه الحقوق للتجزئة والانتقائية والتسييس، مع ضرورة مراعاة الخصوصية القيمية والاجتماعية والثقافية للدول والمجتمعات.

* الأمين العام للتظلمات - رئيس مفوضية حقوق السجناء والمحتجزين