في توالي الأعوام، وانقضاء الأيام، تسير بالمرء ذكرى الصالحين والمحبين، ومن فاحت سيرته بهدي نبينا صلى الله عليه سيراً واتباعاً، ومن أولئك المذكورين، والأعلام المشهورين فضيلة الشيخ الصالح، والمحبّ الفالح محمد بن عبدالله بن حسن بن عبدالله عاشير. وفيما يلي موجز عن سيرته.

نشأته وتعلّمه

ولد الشيخ محمد رحمه الله في مدينة المحرق عام 1935، وتربى في بيت دين وخير، وتلقى تعليمه في المدارس النظامية مروراً بمدرسة الهداية الخليفية، واهتم بالقرآن الكريم فقرأ على الشيخ الفقيه راشد بن سالم بوحمود المالكي رحمه الله، ثم سلك مع الشيخ العالم محمد بن علي بن يعقوب الحجازي الشافعي، ولازم دروسه العلمية، ومجالسه، فقرأ عليه في علوم منها الفقه على مذهب السادة الشافعية، وعلم الحديث الشريف، والسلوك، وقد انتفع الشيخ بالشيخ محمد الحجازي انتفاعاً عظيماً، وقد كانت ملازمته له مبكرة في أوج فترة نشاط الشيخ الحجازي وحراكه العلمي، ويعتبر الشيخ عاشير من أقدم تلاميذه.

وكان الشيخ عاشير رحمه الله متميزاً في عِلْمين اشتهر بهما جمع من أعلام البحرين، فقد كان فرضياً متمكناً ومرجعاً لبعض القضاة، وفلكياً رائداً، فمرّت على البحرين سنوات عديدة، وتقويمها بحساب الشيخ محمد عاشير، وكان قد استفاد استفادة كبرى في دراسة الفلك والمواقيت من الشيخ الفلكي عبدالله بن إبراهيم الأنصاري الشافعي، وكذلك تعلّم من شيخه محمد بن علي بن يعقوب الحجازي شيئاً يسيراً فيه، وله تواصل مع الأستاذ الفلكي صالح العجيري الكويتي -وفي هذا الشأن كان اسم الشيخ عاشير ضمن بحث نافع لفضيلة أستاذنا مبارك بن عمرو العمّاري "فليكون من المحرّق"، وذكر حفظ الله لنا وجوده، وأدام علينا بحر جوده ترجمة له-.

تزوج الشيخ محمد عاشير رحمه الله، وله من الأبناء خمسة: عدنان، والشيخ خالد، والشيخ أحمد، وعبدالله، وحمد، ومن البنات أربع: حنان، وليلى، وفاطمة، وسمية وقد كان قريباً منهم، أحسن تعليمهم وتربيتهم، وكانوا رفقاءه سفراً وحضراً، ممّا أكسب ذلك تأثراً كبيراً في نشأتهم وشخصيتهم، وهذا الدور التربوي ينبغي أن يكون شغل الوالدين، وبغية المربين.

وظائفه ومهامه

ابتدأ الشيخ رحمه الله حياته الوظيفية أميناً للسر في محكمة القضاة برئاسة الشيخ محمد بن عبداللطيف آل سعد وعضوية كل من الشيخ عبدلله الفضالة، والشيخ يوسف الصديقي، وقد كان إبان إدارة الشيخ دعيج بن حمد بن عيسى بن علي آل خليفة قبل تشكّل وزارة العدل والشؤون الإسلامية، وكان اسمها "محاكم البحرين أو محاكم البحرين العدلية"، ثم بعد تشكّل وزارة العدل والشؤون الإسلامية، وتوزير الشيخ خالد بن محمد آل خليفة، وتعيين أخيه الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة وكيلاً للوزارة، عُيّن الشيخ محمد عاشير مديراً لمكتب وكيل وزارة العدل والشؤون الإسلامية، ثم عيّن مراقباً فمديراً للشؤون الإسلامية، وقد شملت مهامه الوظيفية الإشراف على أمور منها المساجد والإمامة والوعظ، وصندوق الزكاة، إضافة إلى عضويته في هيئة الفرز، وتولى الإمامة في مسجد حسين بن مطر "ستيشن"، ثم إماماً لجامع طارق بن زياد إلى أن توفاه الله تعالى، وقد كان متطوعاً في بعثة الحج لسنوات.

مجالس التعليم وعلاقاته الاجتماعية

وكانت للشيخ مجالس علمية، فأقرأ رحمه الله متن أبي شجاع، وكتاب كفاية الأخيار في فقه الشافعية، وكانت له مجالس في الحديث والتفسير، والفرائض.

وممن لزم مجالس الشيخ من أهل البحرين: محمد بوعسلي، ومحمد الحمادي، وعبدالرحمن المنصوري، وإبراهيم الطيب، وعبدالعزيز بوكمال، وحمد أبوالشوك، وناجي أبوالشوك، وفاروق الدوي، وأبناء الشيخ محمد عاشير، وغيرهم.

للشيخ علاقات اجتماعية واسعة بجمع من مشايخ عصره، وهذا الأمر طبَعيٌّ في تكوين الشخصية البحرينية، ثم نوعية عمله واشتغاله، فله علاقات مع أهل الأحساء متجذرة كعلاقته مع السيد عبدالله الخليفة الحسني، وابنه الشيخ المحدّث الفاضل السيد إبراهيم الخليفة، وعلاقة وطيدة مع أسرة آل أبي بكر الملا، مع الشيخ محمد وأحمد ابني عبدالرحمن الملا، والشيخ محمد الفاروق الملا، وفقيه شافعية الأحساء الشيخ أحمد الدوغان، وغيرهم من الأسر العلمية كأسرة العرفج والملحم وآل الشيخ مبارك، وفي الحجاز تواصل عاشير مع السيد محمد المالكي، والشيخ الشريف طه البركاتي إمام المسجد الحرام ومدير التدريس فيه، وفي الإمارات العربية المتحدة تربطه معرفة بالشيخ محمد نور بن سيف المهيري، والشيخ محمد بن أحمد الخزرجي، والشيخ محمد علي بن عبدالرحمن سلطان العلماء، والسيد علي بن عبدالرحمن الهاشمي، وفي الكويت مع له محبة وزيارة مع الشيخ يوسف الرفاعي، وهذا التواصل الواسع الذي يتبادله الشيخ محمد مع إخوانه من المشايخ والعلماء برهان بيّن عن حُسن وصله، وكريم خلقه ووفائه، واستشعاراً للحاجة الماسة في التواصل على الودّ والخير بين أعلام الشرع صيانة لبيضة الإسلام من تناحر أهلها فيما بينهم.

ولما يشغله الشيخ من وظائف دينية دعي لحضور عدد من المؤتمرات في دول الخليج العربية ودول العالم الإسلامي: فقد زار رحمه الله جمهورية العراق بمعية ابنه عبدالله والشيخ ربيعة الشيخ بوحسيّن، والمملكة المغربية ونال شرف التكريم من الملك الحسن الثاني، وقد مثّل مملكة البحرين في حضور غيرها من المؤتمرات والندوات.

جهوده وخدمته للشرع

وكان الشيخ في سيره الشرعي عملياً كغالب مشايخ البحرين، فإنهم يسعون فيما فتح الله لهم فيه من المسالك التي تخدم الشرع الشريف، ولذلك نجدهم رحمهم الله أنهم لم يواصلوا في تلقي العلوم لدرجة عالية، ومع تواضع ذلك إلا أنهم كانوا بدوراً في سماء البحرين جلالة وتزكية وأثرًا، فالشيخ تميّز في وظيفته مديراً وإماماً ومعلماً في المسجد، ومكّن وجاهته في خدمة الناس وقضاء حوائجهم، وإعانتهم، وبيان الحق لهم، وتقديم النصح إليهم، فتح قلبه ومجلسه لاستقبال العامّة والخاصة، وقد وظّف الشيخ عاشير ما تلقاه وأحسنه من العلوم في التعليم، فكانت له حلقة في بيته، وحلقة في مسجده.

وكانت له بعض المجاميع التي أعدّها طبعها بالهند بمكتبة شرف الدين الكتبي في بومباي وقد بدأ اعتماد التقويم البحريني بحساب الشيخ محمد بن عبدالله عاشير منذ عام 1412هـ (1991م) إلى عام 1442هـ (2021م) وكان يُطبع ويُوزع مجاناً على المساجد والمؤسسات والأفراد، وتتكفل بطباعته لفترة طويلة وزارة الإعلام، ثم تولى طباعته أبناء الشيخ محمد عاشير، وقد استمرت طباعة التقويم بعد وفاته باعتناء عدد من أبنائه ممّن أفاد الفلك والحساب من والدهم وهم الشيخ خالد والشيخ أحمد والمرحومة سميّة. وقد أنجز الشيخ تقويمًا لمكة والطائف وعرضه على صديقه الشيخ صالح بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام، ورئيس مجلس الشورى آنذاك، وأبدى استحساناً للعمل على مراجعته وطباعته من الجهات المعنية بالمملكة العربية السعودية؛ إلّا أن المنية عاجلته رحمه الله وأسكنه جنته.

خاطرة الرحيل

بعد معاناة مع مرض الفشل الكلوي ومحاربة للمرض بالصبر والرضا، ومصاحبة التوكل والتقوى، وملازمة حضور الجمع والجماعات، والتواصل والتواصي مع الناس بالخير والبر، توفي الفقير إلى الله الكبير محمد بن عبدالله عاشير بدولة الكويت في يوم الأحد التاسع والعشرين من شهر ذي الحجة عام 1423هـ الثاني من شهر مارس عام 2003، وقد نُقل جثمانه إلى البحرين، دُفن بمقبرة المحرّق، وحضر جنازته عدد من الأعيان وأهل الفضل والعلم وعموم المحبين والناس، تكريماً، واعترافاً بفضله، وتخليداً لذكراه أنشأت صالة الشيخ محمد بن عبدالله عاشير للمناسبات على أرض ملاصقة لمسجد طارق بن زياد بالبسيتين، وافتتح مركز الشيخ محمد عاشير لتعليم القرآن الكريم وعلومه في المسجد نفسه، ومثل هذه الأعمال والمبادرات الخيّرة في حفظ ذكر أولئك الأعلام الأنقياء، والمباركين الأصفياء التي تنعم البحرين بحياتهم، وتفخر بتاريخهم مسلكاً يُقدّر ويُقرّر ويُنْشر.

وفي ختام هذه السطور اليسيرة في شخصية نقيّة السريرة وطيّبة المسيرة، تجعل المرء خير سفير لوطنه بزين علاقاته واجتماعيته المتزنة، وتلميذًا بارًا بأشياخه وأهل الفضل عليه، وقريباً من الناس بوصله وسماحة حضوره وتواضعه، وبه يستقر في نفوس طلبة العلم ذلك الامتداد بينهم وبين أسلافهم من أهل العلم والخير والفضل في بلدهم، وأنه مع جهودهم التي يستقلّها البعض، فخيرها وبركتها ناضحة في البلاد خيراً وثراءً، ويسير الموفق على نهجهم، ويُكمِل مسيرتهم، ويعترف بفضلهم، ولا يتنكّر لهم بحال، ولا مقال، وأن يصحبَ البر بهم بذكر فضلهم، وعطائهم. رحمه الله رحمة الأبرار، ورزقنا وإياهم شفاعة سيدنا المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم.