أيمن شكل - تصوير: نايف صالح


- ثلاثة عقود من العمل في الادعاء العام..

- علاقتي بأمي لا توصف وزوجتي كانت نعم العون لها

- استعنت بزوجة صديقي لتعرفني على الفرنسية التي تزوجتها

- «أم علية» الخادمة كانت تتقاسم طعامها معي

- عثرت على قرش صاغ وحيد في جيبي أنقذني من الجوع


في أسرة بسيطة لتاجر أعلاف نشأ المدعي العام السابق عيسى بوخوة بين 6 إخوة، وارتبط بوالدته طيلة حياتها وتركت فيه أثراً كبيراً، وواجه بوخوة العديد من التحديات لكي يحقق تطلعاته في الدراسة بالقاهرة، ووصل إلى الإفلاس والجوع، حتى كان يقاسم خادمته طعامها، ونجاه الله من حادث غرق حافلة في نهر النيل، ثم عاد إلى البحرين مساعداً للمدعي العام. وخلال رحلة دراسة في إنجلترا تعرف على زوجته الفرنسية بعد معاونة من زوجة صديق كانت واسطة الخير بينهما، لتعيش معه وتنجب له فواز و4 بنات.

وخلال 3 عقود من العمل في الادعاء العام، عاصر بوخوة شخصيات وطنية برزت في العديد من المجالات بعد مرورها على الادعاء العام، الذي خرج منه 4 وزراء، هم الأستاذ جواد العريض والمرحوم محمد حسن حميدان، والدكتور علي بن فضل البوعينين النائب العام، ووزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف المستشار نواف المعاودة وآخرون من أصحاب البصمات الوطنية. وفتح المدعي العام السابق ملفات مسيرة حياته لـ«الوطن» فإلى تفاصيلها:

أين كانت نشأة عيسى بوخوة؟

- ولدت في منطقة شارع صعصعة الذي يتميز بتوسطه منطقة المنامة وقربه من البلدية القديمة التي تحولت إلى ميدان بجانب فندق صحاري اليوم، وأتذكر في تلك الفترة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة رحمه الله كان يأتي إلى البلدية ليستقبل الناس، حتى إن المنطقة أطلق عليها «فريج الشيوخ» لكثرة تواجد شيوخ

آل خليفة فيها، وفي إحدى المرات حضر إلى البحرين الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله لزيارة أخيه الشيخ سلمان بن حمد جد مليكنا المعظم، وكان ذلك قبل توليه رئاسة الإمارات.

حدثنا عن العائلة؟

- كان والدي تاجراً يبيع الأعلاف، وأراد أن يبتاع بيتاً بسيطاً يكون قريباً من تجارته ويجمع عائلته المكونة من 7 أولاد وبنت وحيدة، حتى إن 3 من إخوتي الكبار قرروا الرحيل إلى السعودية للعمل هناك.

وماذا عن مراحل الدراسة؟

- دخلت المراحل الدراسية إلى أن وصلت إلى المرحلة الثانوية، وحصلت على ترتيب السادس مكرراً، غير أن الحظ لم يحالفني في الحصول على بعثة أو منحة دراسية بالخارج في ذلك الوقت، حيث كانت تلك البعثات والمنح آنذاك محدودة جداً، ولم أكن أملك المال الكافي، ولما كانت رغبتي في إكمال دراستي كبيرة ولا تحدها حدود، خططت لذلك من خلال العمل سنة واحدة كمعلم في وزارة التربية والتعليم حتى أستطيع جمع بعض المال الذي يكفل لي تحقيق هدفي ورغبتي في مواصلة دراستي، فضلاً على عملي في أعمال أخرى خلال الإجازة.

متى بدأت الدراسة الجامعية؟

- بعد جمع قدر يسير من المال غادرت سريعاً إلى جمهورية مصر العربية حيث جامعة القاهرة التي تعد من الجامعات الرائدة في مجال التعليم العالي بالمنطقة العربية، وذات الصيت الواسع والشهرة الكبيرة آنذاك والتي كانت الدراسة فيها مجانية وتجتذب الطلاب من العالم العربي، فالتحقت بكلية الحقوق بجامعة القاهرة وتخرجت فيها في مايو 1970 بعد حصولي على شهادة ليسانس الحقوق.

كيف كانت رحلة دراستك في تلك السنوات الأربع؟

- واجهت تحديات كثيرة بسبب قدراتي المالية الضعيفة ووصلت إلى الإفلاس أكثر من مرة، ولم أكن أجد قوت يومي ولم يكن هناك سرعة في إرسال الأموال والتي يمكن أن تتأخر شهرين، ومن المواقف الطريفة أن سيدة مصرية تدعى «أم علية» كانت تأتي لتنظيف الشقة وتطبخ لي بعض الأكل، وحين أفلست أبلغتها أن تبحث عن عمل آخر لأني لا أستطيع حتى توفير الطعام لنفسي، فرفضت التخلي عني وقالت سأعمل مجاناً.

وكانت تطبخ في تلك الفترة لطلبة لبنانيين بنفس العمارة، وتأخذ لنفسها طبقاً مما تطبخ، ثم تأتي لتقتسم أكلها معي كل يوم، وفي أحد الأيام انتظرتها لتأتي لي بأكل من عندهم، لكنها عادت لي بدون شيء وعندما سألتها عن طبق اليوم، قالت إنهم أيضا أفلسوا وأكلوا موزاً وخبزاً.

ولا أنسى يوم تعرضت لحمى شديدة ولم يكن لدي مال لكي أذهب إلى عيادة طبيب، لكن بواب العمارة أرشدني إلى طبيب يستقبل المرضى غير القادرين، وبالفعل ذهبت إليه وأبلغته أنني مفلس فلم يبد اعتراضاً وكتب لي الدواء، فأكدت له مرة أخرى أنني لا أملك قرشاً، فقال لي: «ضع بعض الخل على قطعة قماش وامسح بها جسمك» وللعجب أن حالتي تغيرت تماماً بعد تنفيذ استشارته.

كما أذكر يوما أني كنت مفلساً ليلة امتحانات وشعرت بالجوع فبحثت في جميع ملابسي لأجد فيها شيئاً، وبالفعل وجدت قرشاً صاغاً فنزلت إلى الشارع ووجدت رجلاً يبيع الذرة المشوية، فأخذت واحدة وأكلتها لكن لم أشبع، فحاولت أكل الأجزاء الجافة وهنا لاحظ البائع ذلك فأعطاني ذرة مجاناً.

وكدت أموت في أحد الأيام حين قررت ركوب حافلة من الجامعة إلى البيت، وكانت مزدحمة بشدة حتى إنني تعلقت بها من الخارج، لكني لم أستطع تحمل هذا الوضع فقفزت منها إلى الرصيف، وانتظرت الحافلة التالية، وعندما تحركت مسافة ليست طويلة شاهدنا الحافلة السابقة التي قفزت منها، وقد سقطت في نهر النيل وغرق كل ركابها إلا طالباً جامعياً وحيداً، وكدت أستقر مع الركاب في قاع النيل لولا عناية الله.

حدثنا عن عودتك إلى البحرين بعد الليسانس؟

- بعد حصولي على ليسانس الحقوق عدت إلى البحرين وبحثت عن عمل إلى أن وفقني الله بالعمل في وزارة الداخلية حين كان الوزير سمو الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة، حيث تم تعييني بشكل مباشر في منصب مساعد المدعي العام الذي كان حينها المرحوم إبراهيم محمد حسن حميدان، بعد خروج الأستاذ جواد سالم العريض من الادعاء العام لتولي وزارة العمل في تلك الفترة.

وفي أثناء تلك الفترة حصلت على بعثة إلى فرنسا لمدة سنة، ولم يكن في البحرين آنذاك ملحقية فرنسية فذهبت إلى الكويت والتقيت الملحق الثقافي الفرنسي الذي أعطاني لمحة عن الحياة في فرنسا، ثم ذهبت إلى منطقة تدعى رويان تطل على المحيط الأطلسي.

من بعد ذلك أرسلتني وزارة الداخلية إلى إنجلترا وتحديداً منطقة بور موث، ثم إلى المحاكم البريطانية في لندن بمنطقة الفنت كاسيل، للتدرب على تحقيقات القضايا الجنائية والترافع فيها أمام المحاكم الجنائية، وذلك لعدة أشهر.

ماذا كان عمل دائرة الادعاء العام في تلك الفترة؟

- كان عملي وزملائي من العسكريين والقانونيين هو دراسة جميع القضايا الجزئية المحالة إلينا من جميع دوائر الأمن العام وأقسامها المختلفة من أنحاء البلاد وذلك بعد دراستها دراسة شاملة، ومن ثم إحالتها إلى المحاكم المختصة، ثم الترافع أمام تلك المحاكم في القضايا المهمة منها.

وكانت جميع القضايا الجنائية ترد إلينا بكثافة من جميع أقسام ودوائر الشرطة في البحرين، ولم يكن لدينا في كل تلك الأعمال التي تتكالب علينا وقت كافٍ حيث كانت تتشعب كثيراً في الكم والكيف فنضطر اضطراراً نحن الثلاثة إلى العمل المتواصل ليلاً ونهاراً في مكاتبنا ثم نحمل ما تبقى من أعمال لإنجازها في منازلنا، وكانت كل تلك الجهود التي نبذلها والساعات الطويلة التي تمتد حوالي ثلثي اليوم تنبع من إحساسنا الوطني وإدراكنا بواجبنا المهني المقدس في خدمة وطننا.

في الوقت نفسه كنت المستشار القانوني للقضايا الجنائية لجميع دوائر الأمن العام وأقسامها المختلفة، كما كنت عضوا دائماً كـ«قاضٍ» في المحاكم العسكرية.

ومثلت وزارة الداخلية في كثير من الاجتماعات وحضرت مؤتمرات عدة لمكافحة الجرائم أو الإرهاب أو المخدرات أو غسل الأموال أو الشرطة الدولية «الإنتربول»، وكل ذلك كان بإشراف سمو الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة حفظه الله وزير الداخلية آنذاك.

متى تم تعيينك مدعياً عاماً؟

- بعد تعيين المرحوم إبراهيم محمد حسن حميدان المدعي العام آنذاك وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية، تم تكليفي بمنصب المدعي العام، ولا أنسى وقوف الشيخ إبراهيم بن حسن آل خليفة إلى جانبي بصلابة في تنفيذ المهام المختلفة التي كانت ملقاة على عاتقنا ودعمه في أعمال إدارة الادعاء العام، فلم يكن العمل كمدعٍ عام أو رئيس لدائرة الادعاء العام مضنياً فحسب، وإنما كان مشوقاً ومتجدداً ومثيراً ولا يخلو في بعض الأحيان من طرافة، حيث كنت وزملائي نصبح ونمسي على أحداث أفلام بوليسية واقعية نعيشها.

ما هي كواليس زواجك من فرنسية؟

- لم أكن أتخيل يوماً أن أتزوج أجنبية، لكن في أثناء البعثة في بريطانيا رأيتها تمر في المنطقة التي أسكنها، ولم أكن أعرف إلى أين تذهب، حتى اكتشفت أنها تواظب على الكنيسة للدراسة، فشعرت أن العلاقة لن تنجح، لكني بقيت على أمل إيجاد وسيلة للتعرف عليها، وفي أحد الأيام حضر صديق بحريني مع زوجته للسياحة في بريطانيا، وطلبت منه أن تتوسط زوجته لكي تعرفني عليها، واستمرت العلاقة بعد ذلك وقررنا الزواج حيث وجدتها إنسانة تتمتع بشخصية بسيطة ومتواضعة ومحبة لزوجها وبيتها، بل إنها كانت الأحرص على والدتي.

فعندما تزوجنا وعدت بها إلى البحرين لم أتخل عن أمي التي ارتبطت بها بقوة، فكانت تسكن معي وزوجتي التي اهتمت بها وقدمت لها كل العون خلال مرضها، واليوم هي طبيبتي وممرضتي وكل شيء في حياتي وأشعر أن الله وفقني في هذه الزيجة وقد رزقت منها بابني فواز و4 بنات.

لديك علاقة وطيدة مع الوالدة؟

- فعلاً، كان ارتباطي بوالدتي كبيراً جداً على مدار حياتي كلها، وفي أثناء دراستي في مصر لم تكن تتركني وحيداً هناك فتأتي لتمكث معي 4 أشهر، وأذكر آخر أيامها حين كنت أتجول بها في البحرين ثم نتوقف عند مدخل قلالي لتشاهد الطائرات وهي تهبط في المطار، وتخشى أن تسقط الطائرات علينا.

حدثنا عن التقاعد بعد رحلة العمل الطويلة؟

- بعد أن قضيت 28 عاما في الادعاء العام، توجهت إلى وزير الداخلية سمو الشيخ محمد وطلبت منه السماح لي بالتقاعد، لكنه رفض ذلك، وبقيت في منصبي حتى أكملت ثلاثة عقود، ويوم تقرر تحويل الادعاء العام إلى النيابة العامة وجدتها فرصة لكي أتقاعد وأستريح.

هناك شخصيات بارزة في الادعاء العام انتقلوا بعد ذلك إلى مناصب عديدة، فمن هؤلاء الذين تتذكرهم خلال مسيرة حياتك العملية؟

- أفخر كثيرا بالرواد الأوائل الذين عملت معهم وتعلمت منهم في مراحلي الأولى، وكذلك بالزملاء الذين شاركوني مشاركة فاعلة في دائرة الادعاء العام، فهم العمود الفقري في الدائرة بعلمهم وعملهم المتقن والمخلص وأمانتهم الفائقة وضمائرهم الحية وتفانيهم وحبهم لهذا البلد المعطاء.

وعلى رأس هؤلاء وهم كثر فمنهم، الدكتور علي البوعينين النائب العام الحالي، والمستشار نواف المعاودة وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، والمرحوم بإذن الله اللواء محمد بوحمود الوكيل المساعد للشؤون القانونية السابق بوزارة الداخلية والمستشار جاسم المهزع عضو مجلس الشورى السابق، والعميد حمود بن سعد الوكيل المساعد للشؤون القانونية الحالي بوزارة الداخلية والمستشار نواف حمزة رئيس هيئة التشريع والرأي القانوني بالمملكة، والمستشار الزميل المرحوم أسامة العوفي المحامي العام بالنيابة العامة رئيس التفتيش القضائي، والمستشار أحمد الدوسري القاضي بالمحكمة الدستورية، والدكتور الشيخ صباح بن حمد آل خليفة الأمين العام بالمحكمة الدستورية حالياً، والمستشار حميد حبيب أحمد المحامي العام الأسبق في النيابة العامة والمستشار الفاضل الأستاذ أحمد شنيشن مستشار رئيس المحكمة الدستورية، والأستاذ الفاضل المستشار علي الهواري المحامي العام السابق بالنيابة العامة والعميد المرحوم داود صالح البلوشي منسق ملفات القضايا الجنائية بمعاونة العميد خليفة بن مبارك الغتم، ولا ننسى محمد مبارك البوفلاسة مدير مكتب المدعي العام ذلك الشاب النشط، وغيرهم الكثير من الضباط العسكريين القانونيين الذين نفذوا تلك المهام المنوطة بالادعاء العام على الوجه الأكمل.