اثار المفكر الأديب البروفيسور علوي الهاشمي جدلا واسعا ومشاعر فياضة في تجربته النقدية للموت في التجربة العروضية لشاعر الأمة العربية محمد مهدي الجواهري، حيث ذهب الهاشمي إلى افتراض معنى أصيل في وجدان الشاعر يقرر وزنه قصيدته بما يتسق مع موضوعها و التجربة الوجدانية التي يمر بها، دون أن يوافق في الوقت نفسه على تخصيص الأوزان الشعرية لموضوعات معينة.

وفي أصبوحة نقدية غير اعتيادية للبروفيسور علوي الهاشمي في ضيافة مركز اللغة العربية والدراسات الشرق أوسطية بالجامعة الأهلية، اندفع الهاشمي ليستدعي المتلقي بوصفه أحد عناصر التأثير في وزن القصيدة وقافيتها وحركة الروي فيها، بل يتعاظم دورها بشكل أكبر بوصفه موفقا بين الوزن والموضوع في قصيدة عمود الشعر في طرح نقدي غير مسبوق قدمه البروفيسور علوي الهاشمي وسط أجواء مليئة بالمشاعر والاحسايس بعد أن ظللتها تجارب الموت الشعرية لدى الجواهري، الذي أسماه طه حسين بشاعر الأمة العربية كما يفخر بذلك الهاشمي.

ذهب الهاشمي إلى أبعد من ذلك حين نظر لمفهومي التشكيل المتضمن والمضمون المتشكل ليقرر معانقة ممكنة بل متكاثرة لدى العديد من الشعراء العظام وظيفة النقاد كما يرى الهاشمي استكشافها والتعرف عليها وربما تطلب ذلك استدعاء المتلقي استنادا إلى فكرة أن الشعر لا يكون شعرا إلا عبر التجربة.

الهاشمي وقد لقي في القاعة الرئيسية بالجامعة الأهلية حفاوة كبيرة وقد وصفها الأقرب إلى قلبه بين الجامعات، اسهب في التعريف بملامح الإبداع والتميز في تجربة الجواهري الشعرية ولم يستطع أن يخفي هيامه وعشقه لتجربته، وقد أخذته الأسطر الشعرية إلى ابعد من ذلك ليقرر ويؤكد أن العراق عمق الشعر العربي وقصة الابداع الأولى فيه بلا منازع.

وتوقف الهاشمي منساقا لشغف جمهور الحاضرين عند تجربته الشعرية والادبية منذ نعومة أظفاره، حيث كانت مكتبة الماحوزي مصدر الهامه ومعارفه وثقافته، وكيف بدأ حياته الشعرية وازنًا أبيات قصائده دون أن يعلم، كان يؤدي وهو لا يدري، وكان يكتب الشعر الموزون المحبب إلى نفسه من دون أن يعرف ما يكتبه تلقائيًا هو في علم وعرف علم العروض موزونًا ضمن الـ 16 بحرًا والـ 11 أو الـ 12 تفعيلة المعتمدة لدى الخليل بن أحمد الفراهيدي.

ثم عرج الهاشمي منظرا على نحو جديد في النقد الأدبي إلى أربع قصائد للجواهري تشير إلى الموت في التجربة العروضية لأشعار الراحل الكبير الذي عاش زهاء المائة عام من 1897 إلى 1997 وهو ينازع سكرات الحزن، ويعالج فقد الأحبة، فطاف الهاشمي على أبيات قصائده متسائلاً: هل الشكل أو الوعاء العروضي قد فرض نفسه على تجربة الموت عند الجواهري، أم أن التجربة هي التي فرضت نفسها واختارت لنصوصه ذلك المجزوء من بحور الخليل، مثل مجزوء الوافر، ومجزوء البسيط، ومجزوء الخفيف.

في القصيدة الأولى التي كتبها الجواهري وتعبر عن تجربة الموت بعد أن فارقت زوجته الصغيرة الجميلة الحياة وهي في عمر العشرين، ذهب إلى قبرها ليناجيها بقصيدة حملت عنوانًا باكيًا هو: ناجيت قبرك، ثم توقف الجواهري لمدة سنة وأكثر عن كتابة الشعر، قبل أن يعود متسائلاً بقصيدة باكية أخرى: أجب أيها القلب.

وعندما قتل شقيقه الأصغر جعفر شهيدا برصاص الغدر كتب قصيدة من أروع ما أبدعه الشاعر الكبير بعنوان: أخي جعفر، قبل أن يغوص في تجربة الموت العروضية أكثر فأكثر من خلال قصيدته الشهيرة: لقد أسرى بيَ الأجل، وفارق الحياة.

تجربة حركت مشاعر الحاضرين وربما استنطقت أعين عدد منهم، واستولت على أفئدة آخرين، من الذين ارتأوا في هذه المسيرة الطويلة مشقة تفوق استنجاد الجواهري بمجازئ البحور الشعرية، حتى يخفي آلامه، رغم عدم تبرئه منها، وحتى ينقذ المتبقي من أحلامه، رغم إعلانه الصريح بالتمرد عليها، نعم عاش جمهور الندوة تجربة رائعة مع القراءة النقدية الشيقة للأديب الناقد والمفكر البروفيسور علوي الهاشمي.